مهدي مبروك
استطاعت حركة النهضة (التونسية) عقودا طويلة أن تتحكّم في خلافاتها الداخلية، وتسيطر على التباينات الخاصة داخلها بكثير من الكفاءة والجدارة، حتى بدت الحزب المتماسك والصلب الذي لا ينشق. عصفت بها الرياح، واختبرتها المحن لكنها ظلت متماسكة. حرصت في ذلك كله على أن تجعل من ذلك رأسمالا رمزيا به تفاخر ما نافسها أو جاورها من أحزاب أخرى، وهي تراها تتفكك وتتناسل من بعضها بعضا، أو تنكمش حتى لا تُرى بالعين المجرّدة.
ومع هذا كله، فإن الصورة الحقيقية تخفي أيضا تاريخا طويلا من الانقسامات والاستقالات والانشقاقات، فقد غادرها منذ ظهورها، خلال بدايات سبعينيات القرن الفارط، تحت مسميات مختلفة، مؤسسون عديدون في أوقات ومواعيد متنوعة، غير أن أول انشقاق جماعي كان مع رموز ما سيعرف لاحقا بالإسلاميين التقدميين أو اليسار الإسلامي الذين غادروا الحركة في أواخر السبعينيات، احتجاجا على الأطروحات الفكرية التي يرونها إخوانية منغلقة، إلى جانب “الصورة الحقيقية تخفي تاريخاً طويلاً من الانقسامات والاستقالات والانشقاقات في حركة النهضة” استئثار بعضهم بالقيادة على حساب آخرين، وغياب الديموقراطية الداخلية في إفراز الهياكل واتخاذ القرار، منهم أحمد النيفر وصلاح الدين الجورشي وزياد كريشان. وكان ذلك في زمن مبكّر، قبل أن تتمدد الحركة، وبشكل لافت في الثمانينيات، حيث أصبح لها وجود في الحركة التلمذية والطلابية وقطاعات واسعة من العمل الشعبي. وبدأت الحركة آنذاك، لها جسم تنظيمي ضخم شبع سري- شبه علني، ورموز بعبرون عن صوتها في الساحة الحزبية والسياسية، ويتكلمون باسمها، فضلا عن موارد مالية ورمزية تدار بها شؤون الحركة.
دخلت الحركة في أثناء تلك الفترة وبعدها اختبارات عسيرة ومؤلمة، إذ شملت قياداتها وقواعدها إيقافات وأحكام بالسجن، علاوة على اعتقالاتٍ كانت فيها ممارسات التعذيب ركنا ثابتا، حتى مات تحتها عديدون من أبنائها، ولكنها ظلت، باستثناء حالات محدودة من الانسحابات التي وقعت، متماسكة شعوريا، إذ ساعدتها تلك الاختبارات القاسية على تعميق مشاعر الوحدة وإيجاد لحمة صلبة. على غرار الكائنات المهدّدة، صاغت الحركة ضمن وقائع المحنة وسردياتها مشاعر شديدة من التضامن الداخلي التي أجلت الخلافات الداخلية وطمستها في أحيان كثيرة.
استطاعت “النهضة”، على خلاف حركات عديدة في الإسلام السياسي العربي، أن تحتكر صفة “الممثل الوحيد والشرعي للإسلام السياسي” خلال تلك العقود، وألا ينافسها أحد، وأن تسلم من التشظّي الذي عرفته حركاتٌ عديدةٌ، على غرار الحركتين الإسلاميتين في الجزائر والمغرب، وحتى إسلاميي المشرق، على غرار “الإخوان المسلمين” في مصر والأردن وسورية والسودان.. ظلت “النهضة” شبة استثناء في محيطها العربي: جسم كبير وجهاز تنظيمي ضخم وموحد لمئات آلاف المنخرطين، بمختلف درجاتهم التنظيمية ومشاربهم وتوجهاتهم وأجيالهم.
حدثت الثورة، فأنقذت “النهضة”، وهي التي كانت على وشك التصدّع بعد موجة الانتقادات الحادّة التي وجهها بعض قيادات المهجر، تلتها انسحاباتٌ على خلفية مراجعاتٍ داخليةٍ لم تتناول المسائل الفكرية، بل تناولت خيارات المواجهة وسبل تخفيف العبء الإنساني على ضحايا تلك الفترة. عاد بعضهم إلى تونس، وعدّت تلك خيارات فردية، غير أنها كانت خارج قرار الهياكل القيادية التي ضعفت، ولم تكن تلقى تأييدا واسعا في ظل ملاحقات أمنية حادة ومناف وشتات مفتت. نفخت الثورة في روح الحركة، عادت من رمادها جسما ماردا، طمس كل تلك الخلافات في مناخ “من النصر المبين”، حتى أنها ضمت من جديد القيادات والقواعد التي اختلفت معها وانسحبت قبل الثورة، وتبوأ بعض من هؤلاء مناصب قيادية، وطويت صفحة، أو هكذا خيّل. ظهرت مرة أخرى حركة النهضة موحّدة، تحتكر التعبير عن هذا الإسلام السياسي الحركي. على الرغم من بروز عشرات الأحزاب الإسلامية، ذات الميول السلفية وغيرها، ولكنها سرعان ما اندثرت تقريبا، فلا أحد يسمع بها الآن بعد ثماني سنوات من الثورة. انشق عنها بعض قيادييها، فأسسوا أحزابا، ولكن بعضهم عاد إليها في المؤتمر العاشر، وظل الآخر يدير أحزابا صغيرة لا وزن لها. غير أن استقالة أمينها العام الأسبق، حمادي الجبالي، الذي ترأس باسمها حكومة الترويكا الأولى، تعد الأبرز، غير أن الرجل لم يبد حماسا لتأسيس حزب، وظل ينشط خارج الأطر الحزبية. ويبدو أن طموحاته دفعته إلى الترشّح من جديد للانتخابات الرئاسية المقبلة، ثأرا من سياقاتٍ يرى أنها لم تُنصفه، وصونا لأهداف ثورةٍ يرى أن من حكم من بعده انحرف عنها.
على الرغم من تاريخه الحركي داخل حركة النهضة، وهو المهندس الذي هندس التنظيم، حتى في الفترات الأشد قتامةً من تاريخها، لم يكن لخروج حمادي الجبالي أثر. وظلت “ماكينة” الحركة تشتغل، كأن شيئا لم يكن. لقد قال زعيم “النهضة”، راشد الغنوشي، يوما بمناسبة ذكرى الثورة، وفي شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة، أمام الحشود: “خارج النهضة لا يساوي الذي غادرها شيئا”. وكان الرجل يعي ما يقول، وهو الذي ينقل عنه مقرّبون منه إنه كان معجبا بالزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، الذي كان يردّد حين تُثار مسائل الانشقاقات في حركة فتح: “إذا ملكت المال والعلاقات العامة سيأتيك من اختلفوا معك طوعا أو كرها…”.
لحركة النهضة هياكل منتخبة، قلّ نظيرها في ما يجاورها من أحزاب، غير أن كاريزما راشد الغنوشي، وامتلاكه جل الموارد المادية والرمزية، جعل الخروج عن الحركة مغامرةً خاسرةً، فضلا عن قدرة المشاعر والعواطف على نبذ الخارج عن الجماعة “إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية”، فضلا عما يمكن أن يلحق المنشقين من شبهاتٍ، تنال منهم بقطع النظر عن صحتها. لا تقبل قواعد “النهضة” من يغادر حركتهم، مهما كان فضله على الحركة ونضاله. ولذا لا يُبدون أدنى مشاعر التعاطف مع هؤلاء، وأقصى ما يُبدونه تجاههم احترام صامت، هو أشبه بذكر خصال الموتى.
غير أن السنوات الثلاث، منذ مايو/ أيار 2016، التي تلت المؤتمر العاشر، عرفت تحوّلا لافتا، فقد برزت إلى السطح، وبشكل صريح، مجموعات صغيرة غير متجانسة فكريا وسياسيا مع القيادة، اختارت أن تتكلم بشكل علني، رافضة بعض التوجهات والخيارات ذات الصلة بحوكمة الحركة، علاوة على توجهاتها وأطروحاتها (عبد الحميد الجلاصي، عبد اللطيف المكي، سمير ديلو، محد بن سالم). وعلى الرغم مما أفرزه المؤتمر من هياكل منتخبة، فإن هذه القيادات ظلت، من حين إلى آخر، من خلال الإعلام، تعبّر عن قناعاتها الشخصية خارج الهياكل تلك. تبرز الخلافات واضحةً وحادّةً، أحيانا، بعد أن اختارت الخروج من دائرة الصمت المطبق الذي رسخته حركة النهضة، خلال تاريخها الطويل، فعلى خلاف ذلك، أجازت هذه القيادات لنفسها التعبير عن آرائها في الإعلام، وفي المواقع الاجتماعية للتواصل، وفي بعض الندوات والاجتماعيات الداخلية للحركة مع القواعد و الجهات… اتخذت مواقف لم تكن هي بالضرورة مواقف القيادة في مسائل مختلفة ومتنوعة: التوافق، مشروع المساواة في الميراث، حكومة يوسف الشاهد…
ولكن يبدو أن تصريحات القيادي لطفي زيتون، أخيرا، والتي أبدى فيها انتقاداته الحادة للحركة في مسائل جوهرية، هي موضوع جدل راهن واتهامات موجهة لها على غرار: علاقة الحركة بالدولة، علاقتها بالإسلام، وضرورة تحريره من وصايتها، كما ذكر فضلا عن اختيار التوقيت وسياقاته قد تحدث منعرجا خطيرا، لن تستطيع الحركة التحكم فيه بمثل الآليات التي اعتمدتها. يبدو أن الحركة، وهي تعبر انتقالاتها المؤجلة والمرتبكة، انتقالها من إسلام سياسي إلى اسلام ديموقراطي (حتى هذا غدا موضوعا للتحفظ)، انتقالها الديموقراطي الداخلي، انتقالها الفكري من حركة إسلامية ذات مرجعية إخوانية إلى حركة سياسية مدنية، انتقالها من المعارضة المضطهدة إلى الحزب الحاكم في ظل ثقافة سياسية براغماتية واقعية… سيجعل مهمة إدارة الخلافات عسيرة في السنوات المقبلة. لا نطرح فرضية ما بعد الغنوشي، بل فرضية إدارة الخلاف راهنا في حركةٍ ضمت أجيالا مؤسسة ذات تكوين عقائدي، قواعد “تسلفن” بعضها في أثناء المحنة وسنوات الملاحقة، مجموعة المهجر ومجموعة السجن، وزن الجهات التي يبدو أنه اختلّ على خلاف سنن ما تم التوافق عليه، وافدون جدد لا يمتلكون شرعية النضال، بل شرعية الأداء والكفايات.. إلخ. ربما تنجح الانتخابات المقبلة، وما تعلق عليها من رهانات حاسمة في تأجيل هذه الخلافات. ولكن كل شيء يرجّح أن تظهر مجددا إلى العلن، وبشكلٍ أكثر حدّة قد تخرج عن السيطرة، ما لم يتم إيجاد آليات إدارتها. في ذلك كله، يحسب لحركة النهضة، باستثناء حالات محدودة جدا، أن قياداتها، حتى التي انسحبت، تجنّبت نشر الغسيل والتشهير وثلب الأشخاص، والتزمت بآداب الخلاف، فهل يستمر هذا كله؟
العربي الجديد