علي المسعودي
(هل أتاك حديث السادس من فيفري وثورة المدرسين ؟ هل رأيت الجموع التي سدّت أفق الشوارع، وهدير أصواتها الذي زلزل ساحة القصبة وشارع باب البنات ؟ إنه الانتصار العظيم لقضايا التعليم، وردّ اعتبار لكرامة تداعى عليها كل غريب وقريب ؟ وفي النهاية أذعنت سلطة كريستين لاغارد واستجابت لمطالب قطاعنا المجيد !.
إنه يوم مشهود، لا يضاهيه إلا يوم الرابع عشر من جانفي في حجم الحشود).
تلك هي لازمة كل خطاب في أدبيّات العمل النقابي المستقبلي، وغدا كل يوم هو يوم عيد !.
المهمّة أُنْجِزَت، وسيعود المدرّسون إلى قاعات الدرس حيث التدفئة مركزية، والصبورة تفاعلية، والطاولات بمعايير فندقية.
المهمة أُنْجِزت، وسيعود المدرّسون إلى مؤسساتهم، وقد اكتست حلّة جديدة، زاهية بهيّة، يطيب فيها الدرس، وينمو فيها الغرس.
المهمّة أُنْجِزَتْ، وسيعود المدرس ليفتح برامجه الرسمية ويكتشف الثورة الاصلاحية الكبرى في التقييم والبيداغوجيا.
المهمة أُنْجِزَتْ، وسيعود المدرسون على وقع زمن مدرسي جديد، يراعي مصلحة المعلم والمتعلم، وحيث نغادر للأبد مفهوم المدرسة السجنية.
والقانون التوجيهي للتربية والتعليم تمت مراجعته وقد انكبت عليه نخبة العقول.
المهمة أُنْجِزَتْ، وسيكتشف الجميع أن لا حاجة بعد اليوم لشيء اسمه درس خصوصي، وأن التعلّم بالمجّان، بأمر الدستور وفي كل النصوص.
ستعود المؤسسة التربوية أسرة واحدة مهما تعددت قطاعاتها، واختلفت أسلاكها، وحيث الجميع يراعي مصلحة التلميذ الفضلى.
وسيجد المدرس حال دخوله الإدارة طابورا من الإداريين والعاملين، هم رهن إشارته لكل طلب، طباعة أو استشارة، أو لوما على تقصير مفترض !!!.
•••
المهمة أُنْجِزَتْ، ولكنّ أهمّ انجاز حقيقي هو السطو الناعم على المؤتمر القادم للجامعة العامة للتعليم الثانوي، حتى تتكرر نفس الوجوه، ونفس السياسات والنضالات، ونفس الخطاب والاستراتيجيات.. أي التاريخ عائدا في شكل مأساة !.
ليس أمام الجامعة العامة للتعليم الثانوي من خيار سوى القبول بما يعرض بالحد الأدنى من الاتفاقات.. هي تعرف ذلك منذ شهر نوفمبر، بل وتعرف حتى مضمون ما سيعرض وما هو آت.
بعد أشهر من تحدي كل الخطوط الحمراء، وخطاب التشاتم مع الأولياء، اكتشفنا فجأة أننا أمّ الصبيّ، وأن مطلب التقاعد صعب التحقيق في الظروف الحالية، وأن المنحة الخصوصية تُخِلّ بتوازنات المالية العمومية… وأننا نعترف مثل الحكومة بصندوق النقد الدولي كصاحب للسيادة والشرعية !!.
وما لم يفهمه بعض الزملاء أن سلسلة الإعفاءات المتتالية كانت ضمن الخطة التفاوضية للوزارة منذ البدء، وأن اعتبار عودة المعزولين سببا كافيا لإنهاء الإضراب ينمّ عن قصر في العقل والنظر.
حبكة السينياريو المعدّ مسبقا للاستهلاك، والتي سيسوّقها “الاعلام الرسمي” هي كالتالي: اتفاق معلوم منذ البداية لا يحفظ حتى ماء الوجوه، يتمّ إخراجه كما لو أنه ثمرة مسيرة السادس من فيفري العظيمة، وكما لو أنه انتصار مدوّ.. بينما حقيقة الميدان تقول أن الأمر لا يعدو خديعة سينمائية تتغنى ببطولات معركة العبور، وتتعامى عن انكسارات ثغرة الدفرسوار.. فكر النقيب العام هو نفسه فكر السادات، لم تكن له أيّ نيّة في تطوير الهجوم، بل تسجيل نقاط من أجل يوم انتخابي معلوم..
للأسف، تربويّا، السادس من فيفري هو يوم يشبه سابقه ولاحقه، ولعلّ الأسوأ ما بعده… وإذا كان شهر فيفري موسوما بالحرق والاغتيالات، فالخشية أن تُغتال عبر هذا الاتفاق المدرسة وأحلام الاصلاح، وأن يكون تأريخا لليل قد يطول… إنه الاتفاق الذي سيخفى المعاناة بأضواء الفرح.. والانتصار الباهر في المعركة الخطأ!.
سيكتب هذا الانتصار بماء الذهب، وستظل المدرسة تحتضر، وتصارع الموت دون اهتمام من أحد.
سيعود المكتب الجامعي رافعا راية النصر عبر صندوق الانتخاب، وستظل المؤسسة التربوية كما أرادها دوما، مسرحا للمعارك، ولوحة إعلانية تزخر بالشعارات.
ستظل السفينة ينخرها السوس دون رتق، ومع الأعوام تنضاف كل مائة ألف إلى مائة ألف، لتلتقي هذه الروافد من المتسرّبين في مصب اسمه البحر الابيض المتوسط، لا تسلكه إلا زوارق “الحراقة” نحو أوربا، أو نحو أعماق مياه هي لأحلام الشباب مدافن ومراقد.
ستظل السفينة دون دفّة أو ربّان إلا من مدير لا يدير شيئا سوى تدوير زوايا الساعات والأيام، ولا يملك من أمر مؤسسته إلا بقدر ما تملك من جسدها جارية في سوق الإماء والغلمان.
اعتقادي الراسخ أن المربّي لا يشبه عضوا في نقابة النسيج، يكافح فقط ضد الاستغلال وتسلط الأعراف وسوء النفوذ. إنه شريك في رأس المال، بل يكاد يكون هو المستثمر الوحيد.. ولكن، مع الأسف ستبقى المدرسة صبيّا ولا أمّ، امرأة مطعونة، ولا أحد يهتمّ، حتى من قبل المدرسين، أولياء الدم..
ستظل المؤسسة التربوية التونسية مثل قلعة حلب، شبعت خرابا وتدميرا ومع ذلك مازالت في قلب دوّار كما يطوف بالكعبة جمهور بلا عدد !. لو كانت المعركة من أحل إعادة البناء، لباركنا وهللنا وقلنا هي ذي ثورة الوعي، وميلاد بلد، ولكن الملاليم المضافة ستذهب مع غول التضخم، ويبقى لنا البيت الخراب…
… وهناك، بعيدا، يضحك بائع القرد ملء شدقيه، وللضحكة يستعيد.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.