نور الدين الغيلوفي
نصٌّ سيُغضب كثيرين
أقرأ نديبا على القرآن وحمَلته ونواحا على الدّين وأهله بسبب ما راج عن أطفال بمدرسة قرآنيّة من تلك المدارس العشوائيّة النابتة من عهد الاستبداد في كلّ أنحاء البلاد!.. وقد حفّت بالواقعة ملابسات شتّى وكثُر بشأنها التلبيس.. لستُ ملمّا بما جرى في الحادثة ذاتها ولا أريد أن أخوض في ما تعرّض له هؤلاء الأطفال هنا وهناك.. ولكنّ لي رأيا أشاء إشراك الأصدقاء فيه بشأن تلك الطفيليات الدينيّة المسمّاة “مدارس قرأنيّة”.
كائنات بافلوفيّة:
لا يعنيني ذاك الإعلاميّ الصغير (لم تسعفني صيغة تصغير في اللغة تنزل إليه).. قلت لا يعنيني لأنّه عندي غير مكلَّف، إذ العقل هو مناط التكليف.. ولا أظنّ ذاك الصبّي مكلَّفا.. لأنه، ببساطة لا عقل له.. ومن أين له أن يعقل وهو المشهور بقولته “الكتب آش نعملو بيها؟”.. ولو كان في قطاع الإعلام عقلاءُ لما سُمح له بأن يكون منه.. إذ الإعلاميّ يُعلِمُ.. ولا يُعلِمُ إلّا من كان يعلَمُ.. وأنّى لذاك الشبيه أن يعلَم حتّى يُعْلِمَ ويتعدّى منه فعل نافع؟.. فهو لا يعدو الصوت الذي يصدر عنه.. والصوت شَرِكة بين الإنسان وغيره.. يتجاوز الإنسان ذوات الأصوات الأخرى، لأنّه كائن لغوي، إلى النطق.. والنطق موصول بالمنطق والمنطق متعلّق بالعقل والعقل خصيصة الإنسان.. وذاك الصبيّ يأكل من صوته ولو أنّه ارتفع عن منزلة الصوت لما وجد ما يأكلُ…
قلتُ: لا يعنيني ذاك الإعلاميّ الذي يتصيّد الإثارة إنّما تشغلني تلك الاستجابات الانفعاليّة لقوم ينخرطون في ردود الفعل قبل التثبّت وينساقون للّردح قبل التروّي.. وكلّما ألقى إليهم أحد العابرين بحجر انشغلوا بتلقّفه عمّا يجري حولهم وأهدروا من وقتهم ما لا يحفظ دينا ولا يصون دنيا.. انفعالات بدائيّة تحسب كلّ صيحة عليها تضيع فيها الجهود وتُهدَر الأوقات.
فماذا عن المدارس القرآنيّة؟
المدارس القرآنية المنتشرة في البلاد لا معنى لها لأنّه لا فائدة ترجى منها.. فخرّيجوها لا يعدون أجهزة حافظة لنصّ ساكن لا حياة فيه لأنّهم يحفظون ولا يعقلون ما يحفظون.. وكيف لهم أن يعقلوا ومدرّسوهم لا يتفوّقون عليهم بغير سنوات العمر وبعض المحفوظات الجامدة المكرورة ولحية ورثوها من عصر ما قبل البعثة.. وإلّا فما فائدة ترديد كلام أنتجه جيل القرن الهجريّ الأوّل؟ تلك المدارس لا تنتج، في أحسن الأحوال، غير قرّاء يُنتدَبون لإمامة الناس بالمساجد بلا علم ولا معرفة.. ولا أخلاق.. نعم.. ولا أخلاق.. فكم فتى ترك مسجده وباع نفسه لمسجد غيره لقاء زيادة في المال زهيدة كلاعب كرة تسلّل من فريقه خلسة لقاء عرض أفضل؟ ولا مهارات لدى كثير من هؤلاء غير ما ينتجونه من أصوات يردّدونها وقلّما يعقلونها.. حتّى لقد اختُزل القرآن في بلادنا إلى صوت حَسَنٍ خَفِيَ ناطقُه عن صفوف المأمومين فلا يكاد يختلف، بخفائه، عن جهاز تسجيل يرتّل القرآن ترتيلا.. وقد يُحدث في الأسماع أثرًا…
1. المدارس القرآنية تنتدب، في غالب الأحيان، أطفالا أخفقوا في مدارسهم الأصليّة، لانحراف في سلوكهم أو لعجز تعلّميّ فيهم، فهرّبهم أولياؤهم إلى تلك المدارس عسى أن يجعلوا منهم أئمّة يُهتدى بهم في شؤون الدين.. بعيدا عن شؤون الحياة في ثقافة تفصل فصلًا فجًّا بين الدين والدنيا.. يدخل هؤلاء تلك المدارس فيخرجون من الحياة يلبسون ما لا يلبسه الناس ويتحدّثون بما لا يفهمه الناس ويُدرَّبون على مخالفة المجتمع في كلّ شيء تجسيدا “للسّنّة”.. ولا سنّة لديهم غير ما كان تجسيدا للغربة عملا بقولة “بَدَأَ الْإِسْلَامَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ”.. غربة في كلّ شيء.. غربة في اللباس وغربة في المأكل والمشرب.. وفي كلّ ما له صلة بالمظهر.. وكيف لمن يفاخر بغربته أن يندمج في مجتمعه ليكون مفيدا؟
2. الدين والقرآن لا يحتاجان إلى تلك المدارس الغارقة في القديم المعادية لكلّ ما هو حديث.. وأرقى ما يسمعون عنه مقولة الاجتهاد.. وباب الاجتهاد مغلَق لأنّ العلم قد احتكرَه سادتنا العلماء الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة إلّا قالوا فيها وأطالوا وأحسنوا وأبدعوا حتّى لم يتركوا لمن يأتي بعدهم غير فعل الاجترار يُنتَدَب إليه فتيان صغار ضاق بهم أولياؤهم وقد أعجزتهم مصاعب الحياة فأخرجوهم منها واختاروا لهم الغياب على الحضور… لقد تعلّمنا من قديم الزمان أنّ القرآن كلام الله المسطور في جدل مع الكون كلامِ الله المنظور.. يفسّرهما الزمان.. غير أنّ تلك المدارس لا تقرأ من الزمان ما تفسّر به القرآن ولكنّها أوكار جهل تغيّب منتسبيها عن الزمان فتعجز عن فهم محدَثاته وكلّما أعجزها منه أمر بحثت عن حلّ له في القرآن والقرآن بين يديها صامت لا ينطق لأنّها حجزته فمنعته من النطق والبيان…
3. القرآن لا يحتاج مدراس يشرف عليها قوم سكنوا في كهوف الماضي.. تركوا الحياة وانتصبوا يعلّمون الناس دينَهم فما أنتجوا غير جهل قديم.. مقدَّس.. ما أقبح تقديس الجهل القديم..
القرأن كلام الله يتنفّسه الوجود وتنفجر به الحياة وتنظر به طُرُق التقدّم.. يسير مع الحياة ويسير بها.. وليس حروفا محشورة في مصحف تتلقّفه آذان لا تسمع وتردّده ألسنة لا تعقل من قوم لا يرون في الدين غيرَ التفاتٍ إلى وَرَاءٍ يمعن في الغياب.. حتّى لا حضور ولا شُهود.. ولا حياة.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.