شكري بن عيسى
بقاء هيكل “تعليمي” خارج عن إطار الرقابة الادارية والتربوية والثقافية والصحية، وبدون ترخيص قانوني على الأغلب، لمدة سنوات عديدة، هو أكبر عناصر الإدانة لهذه الدولة التي تحرّكت اليوم بطريقة هوليودية، لتقول أنّها موجودة وحاضرة، بكل مؤسساتها القضائية والأمنية والوزارية لتضرب بالحديد ضد التجاوزات، والأمر كله تناقضات لا تجعلنا نصدّق الروايات، مهما كان مصدرها وادعائها وقوّة صوتها، وما يزيد في الارتياب هو ارتباط الوقائع بمؤسسات عودتنا بعدم الاستكانة لما تقدمه، ويأتي الإعلام على رأسها وخاصة حمزة البلومي، الذي صار نموذجا للسقوط المهني السحيق خدمة للاجندات الحزبية المعلومة.
أوّل المعطيات القادمة من الداخلية في بيانها اليوم الأحد، تفيد بوجود بين المعنيين أطفال دون سن السادسة عشر منقطعين عن الدراسة، وهذا ثاني عنصر إدانة لدولة لا تلتزم بقوانينها ودستورها، ولا تحاسب مؤسساتها التعليمية والادارية والرقابية، حول التزام دستوري صريح (الفصل 38) يفرض على الدولة إجبارية تعليم الأطفال إلى حدود سن السادسة عشر، ولكن أيضا البيان السردي كان كله خروقات للدستور (الفصل 23) والقانون، إذ وحده القضاء وفق الدستور يمكن أن يوجه التهم ويدين الأشخاص بعد المحاكمة العادلة، وليس الجهاز التحقيقي البحثي للداخلية، (على طريقة الشيباني الذي لازلنا ننتظر إثبات إتهاماته الباطلة لأهالينا في الكامور)، انبرى في الادانات بطريقة مسرحية من نوع “تعرض للعنف” و”سوء المعاملة” و”الاستغلال الاقتصادي”، مع نوع البهارات المعتادة مثل “الجرب” و”القمل”، التي التقفتها مباشرة “موزاييك” لتصنع منها فلما هليوديا حقق رقما فلكيا في المشاهدة (إلى حد الثامنة مساء: 10 آلاف بارتاج)، دون أدنى إلتزام بالمعايير المهنية المستوجبة اعتبارا للقاعدة الأصولية “مصدر وحيد لا يعتبر مصدرا”.
البيان أشار إلى أن انطلاق المعاينات من الداخلية كان بتاريخ 29 جانفي المنقضي، أي بالارتباط مع “التحقيق” الصحفي على قناة “الحوار التونسي” في برنامج “الحقائق الأربع”، والأمر تم بالتنسيق مع الهيئة الوطنية لمكافحة التعذيب والمندوب الجهوي لحماية الطفولة ومراجعة النيابة العمومية بسيدي بوزيد التي أذنت بالبحث والمعاينات، والأمر انتهى بعد تنقل آخر للوحدات الأمنية المختصة مع المندوب العام للطفولة وخمسة أخصائيين نفسين بتاريخ 31 جانفي، وبإذن من النيابة العمومية بنقل الأطفال وإيوائهم بأحد المراكز المندمجة للشباب والطفولة وتمكينهم من الرعاية المختلفة، والإحتفاظ بصاحب “المدرسة” من أجل الإتجار بالأشخاص والاستغلال الاقتصادي لأطفال والإعتداء بالعنف والإشتباه في الإنتماء لتنظيم إرهابي، مع إمرأة عمرها 26 البيان إدعى أنها اعترفت بزواجها مع المعني خلاف الصيغ القانونية، والمعطى المقدم حول “المتمدرسين” يفيد بوجود 42 طفل بين 10 و18 سنة و27 راشدا بين 18 و35 سنة، وهذا عنصر الإدانة الثالث باستمرار أطفال دون رعاية ولا حماية لسنوات في خرق لما يقتضيه الدستور في فصله 47.
الحقيقة أنّ حملات التشكيك في سلامة الإجراءات وحياد الإدارة والقضاء منذ نقل الأطفال لتونس بطريقة غريبة وصادمة، إضافة لتأكّد أخبار الفحوصات الشرجية، ولم تكن الحملات والحملات المضادة في انفصال مع الانتماءات الايديولوجية، ولكن الأمر بدا محل شكوك قوية لمعطى أساسي وهو التحرّك الاستعراضي لمؤسسات الدولة، خلاف الحالات السابقة المشابهة والأكثر خطورة حتى مثل الإعتداء بالفاحشة على أطفال في رياض أطفال، وقضية التعذيب الوحشية في مركز أطفال التوحد السنة المنقضية، ما جعل الأمر يبدو من زاوية استهداف الدين وكل ما له علاقة بالمعتقد الإسلامي، والاستفهامات والضبابية تتكثف، خاصة بوجود دولة مستقيلة في حماية الطفولة بشكل واسع، مع انتشار حالات الإتجار بالطفولة والتشرد والاستغلال في العمل وحتى جنسيا، إضافة لانتشار المخدرات وحالات الإنتحار المتزايدة.
والأمر فيه تناقض وازدواجية في التعامل من سلطة مفترض أن تلتزم الدستور والقانون وخاصة مبدأ المساواة (فصل 21 من الدستور)، وخاصة الحياد إزاء كل القضايا مثلما يقتضيه الدستور (الفصل 15)، وهو ما جعلها في مأزق حقيقي بقطع النظر عن حقيقة وجود مخالفات وجرائم من عدمه، أمّا الأمر الآخر الذي أثّر وعمّق الإحتقان الاجتماعي خاصة على شبكات التواصل الاجتماعي هو إختفاء المنظمات الحقوقية التي ترفع شعارات التقدمية والحداثية، ولم نكد نعثر لها عن قرار مثلما حدث الأمر في قضية المثلية الجنسية (اللواط) في الفصل 230 مجلة جزائية الذي اهتزت له أغلب المنظمات الحقوقية، لكنها اليوم تغيب بشكل كامل في معظمها باستثناء العفو الدولية التي أصدرت بيان تنديد، متعلق باحتجاز الأطفال وعملية الفحص الشرجي وعدم السماح لأوليائهم بمقابلتهم.
والطريقة الإستعراضية الحقيقة ألقت بشكوك كثيفة للبعض حول غياب الحياد ووجود شبهات “إستهداف الدين”، ولكن أيضا حضور شكوك قوية حول التوظيف السياسي في فترة حساسة في سنة انتخابية حاسمة وشد سياسي حاد، في ظل احتقان سياسي واجتماعي واقتصادي عنيف، في محيط وطني طغى عليه نزاع نقابة الثانوي ووزارة التربية وتعطّل كامل للمرفق التعليمي-التربوي، وبعث حزب الشاهد في ارتباط بالسطو على شعار وطني “تحيا تونس”، ورفع تجميد مشبوه من مجلس الإتحاد الاوروبي على أموال مروان المبروك، وعلى بعد أمتار من إضراب عام بيومين، وافتقاد عديد المواد الأساسية من زيت وسكر وغاز مدعم وفرينة وسميد ارطب مدعم الخ.، إضافة لعجز الدولة الكبير عن مواجهة عواصف الثلوج في الشمال الغربي والقصرين، والأمر بدا في جزء كبير للإلهاء حول هذه القضايا وغيرها، وفي جزء لخلق استقطاب سياسي حاد على أساس الدين والنموذج المجتمعي يستفيد منه حزب القصبة الجديد.
والتصرف والأسلوب من الدولة إضافة إلى الشكوك المسترابة حول حياديته وخدمته الصالح العام، فقد بدا مختلا مخالفا للقانون خارقا للدستور، وخاصة متناقضا غير خاضع لمبدأ المساواة الجوهري، وحكايات القمل والجرب فقد تم تسجيل مئات منها في المدارس الرسمية إضافة للالتهابات الكبدية، تضاف إليها الروضات الخاصة العشوائية وحتى الوحشية دون نسيان المدارس التي تفتقد للحماية الصحية والشروط البيداغوجية، وانتشار مدارس يهودية وأجنبية دون رقابة، والأمر بدا فيه إختلال عميق بنقل عشرات الأطفال دون إستشارة الآباء بما يشبه الاعتقال الجماعي، مع وجود شبهات بالضغط والتعذيب وتعتيم وعند إصدار بيانات تكون موجّهة.
والمعالجة هنا بدت متهافتة وحادت عن طريقها وصوابها، والتعمية على تقصير الدولة كان واضحا في جانب كبير، إذ وجود هذه “المدرسة” واستمرارها لسنوات مع كل المخالفات المسجلة هو أكبر إدانة للدولة، والغياب الكامل للدولة كان صارخا من وزارة التربية إلى الأسرة والطفولة إلى الشباب إلى الثقافة والأمن والقضاء، ويبدو أنّ هذه المدرسة ليست الوحيدة فقد يكون أمثالها عشرات وربما مئات، والدولة هنا ملزمة وفق الدستور (الفصل 38) بتأصيل الناشئة في الهوية العربية الإسلامية، وسلامة الشكل من سلامة الهدف، وما شاهدناه في هذه المسماة مدرسة ليس إساءة للتلميذ والتعليم فقط بل إساءة للدين في ذاته، بإرساء تعليم خارج كل رقابة حكومية ومجتمعية ومدنية، يفتقد للقواعد البيداغوجية والتربوية والصحية، بمشرفين قد لا تتوفر فيهم الشروط الدنيا وتعريض الأطفال لمخاطر عالية، وهذا الشكل فيه تقهقر حتى على التعليم الزيتوني الأصلي الذي تم تطويره في أكثر من مرة، ليستجيب للشروط وحاجيات العصر، وإضافة لذلك فهذه المواقع يمكن أن تشكّل منابع لتفريخ الإرهاب وهذا هو الأخطر، ولكن أسلوب الدولة في التعامل هو الذي واجه أفعالا خاطئة وربما إجرامية بشكل خاطىء مختل وربما إجرامي.
وهذا ما يثبت أنّ “الصحوة الحكومية” مشكوك فيها ومسترابة بل غير صحيحة، وغطّت عن حقيقة وجوهر مشكل مستفحل في بلدنا، وهو الإنقطاع المدرسي الذي يعد بقرابة 100 ألف سنويا، وعدم التمدرس الإجباري بعشرات الالاف لمن سنهم دون 16، مع وجود تعليم عمومي لا يوفر لا الجودة ولا مستوجبات الحد الأدنى للإغراء على متابعته، كما غطّت عن حقيقة الطفولة الجانحة والمشرّدة والغارقة في المخدرات، والتي تستوجب وقفة حقيقية من كل الدولة، وليس عبر هذه المعالجة الفلكلورية الإستعراضية، تحت الإستغلال الفاحش الرخيص للإعلام، مع وجود خلفيات ومقاصد باتت مكشوفة ومفضوحة، بطمس الأزمة العميقة التي تتخبط فيها البلاد وتحويلها إلى إستقطاب حاد على أساس إيديولوجي، بات فعالا مطلع كل سنة إنتخابية!!