شعب غيرُ مرتاح في بَوْلَتِهِ، لا يمكن أن يكون سعيدا في دولَتِهِ

عبد اللطيف علوي
كثيرة هي المواضيع المسكوت عنها في بلد الثّلاثة آلاف سنة من الحضارة، وقد لا يتوقّع الكثيرون أن يتحدّث الشّاعر في موضوع كهذا، غير أنّه، عكس ما قد يتوقّعه البعض، فإنّ الشّعراء هم أيضا كائنات تأكل وتشرب، وبالتّالي يسري عليهم من أمر الله ما يسري على بقيّة خلقه.
ويقول الرّاوي، إنّه في هذا البلد السّعيد، تبدأ الصّراعات داخل العائلة كلّ صباح على اقتسام الوقت في بيت الرّاحة، قبل تبادل القمصان والإرث واقتسام الأرزاق، خاصّة إذا كانت العائلة كثيرة العدد، فيكثر الطّرق على الأبواب والإلحاح ورجاء الاستعجال والشّكوى والتّذمّر من سيطرة صحاح الرّقعة على ذلك المزار.
ثمّ يخرج أفراد هذا الشّعب السّعيد إلى الشّارع، ومن هنا تبدأ مأساة أخرى من نوع آخر، لا يتكلّم عنها الكثيرون لأنّنا تعوّدنا دائما أن نعتبر حاجاتنا السّفلى الحميمة، عارا لا يجوز أن نتحدّث عنه.
والحقيقة أنّ دولة لا تحترم شعبها في أكثر حاجاته البشريّة حميميّة، لا يمكن إلاّ أن تكون غارقة في التّخلّف كما تغرق مراحيضها العموميّة ـ إن وجدت ـ في الرّخاء والذّباب والرّوائح القاتلة.
كم من تلميذ يقضي يومه في المدرسة أو المعهد، ضامّا فخذيه متأوّها بصمت، لأنّه إمّا أنّ المعلّم أو الأستاذ أو القيّم لا يسمح له بقضاء حاجته، أو لأنّ المراحيض لا تصلح للاستعمال الآدميّ، تفتحها فيعترضك الطّوفان إلى الباب، ثمّ نطلب منه التّركيز في الدّرس؟! أحدهم أخبرني أنّ ابنته، وهي صبيّة في المدرسة الإعداديّة، كلّ يوم تعود إلى البيت راكضة في أسوإ حال، وكم من مرّة لا تستطيع أن تتمالك نفسها أمتارا قليلة قبل الوصول، ولا تصل إلاّ وقد ترنّخ أسفلها.
هذا الوضع هو نفسه أيضا في الكثير من المستشفيات، وفي دور الثّقافة والمسارح والمعامل، حيث تضطرّ العاملات إلى قضاء يوم كامل وهنّ يمسكن أسفلهنّ، لأنّ أرباب العمل لا يفكّرون في تلك الأشياء التّافهة بالنّسبة إليهم، مادامت لديهم مراحيضهم الخاصّة النّظيفة المعطّرة المكيّفة المغلقة دائما بمفتاح سيادته وسيادتها، كأنّ ما سيخرجه من أسفله مسك وزعفران وليس كما يخرجه العبيد والخدم.
خروج المرأة إلى الشّارع لوقت يطول نسبيّا، يصبح في كثير من الأحيان معاناة زرقاء، إذا كانت امرأة حاملا أو مريضة بالسّكّريّ أو لأيّ سبب من الأسباب داهمتها الحاجة، فإنّها ستذوق الأمرّين قبل أن تجد محلّ حلاقة للسّيّدات، هذا إذا رقّت لحالها وسمحت لها أصلا باستعمال بيت الرّاحة، ففي كثير من الأحيان، تقوم الحلاّقة بالفرز البصريّ، ولا تسمح إلاّ لبنات الطّبقة القطنيّة بتشريف مرحاضها، أمّا الكادحات الكالحات الوجوه، فتردّهنّ ولو كنّ في النّزع الأخير. الرّجل منّا إذا خرج مع زوجته أو ابنته سيدرك حجم المعاناة الّتي يعشنها، وسيقف عاجزا متألّما لحالهنّ، وأحيانا قد يلتجئ إلى إدخالهنّ إلى إحدى مقاهي الرّجال، وهنّ يتعثّرن في سجوف خجلهنّ، تحت أنظار الفضوليّين الّذين سيكملون حتما تخيّل المشهد وانتظارها عند الخروج.
الرّجال في هذا أفضل حظّا بكثير من النّساء، لتوفّر المقاهي، وإن كانت مراحيض المقاهي أيضا، لا تصلح إلاّ للخنازير، أو أنّها صارت هي أيضا مغلقة أغلب الوقت ومكتوب عليها معطّب ولا يعطى المفتاح إلاّ للزّبائن الأوفياء.
نحن شعب إذا خرج الأب مع عائلته للتّرفيه، فسوف يعود الجميع بعد ساعات راكضين متسابقين إلى بيت الرّاحة وهم يمسكون خراطيمهم كي لا يبلّلوا أسفلهم.
شعب يعاني الكثير من أبنائه من أمراض الكلى منذ الصّغر ومن عدوى الالتهابات الشّرجيّة، شعب يعيش ويشتغل بشكاير بولة متهرّية وهو في منتصف الأربعين، شعب لا يجد راحته حقيقة في أخصّ خصوصيّاته الّتي ابتلتنا بها الطّبيعة البشريّة وليس لنا أيّ ذنب فيها، فكيف يستطيع أن يشتغل وينتج ويتعلّم ويتثقّف ويترفّه وهو يتحرّك داخل هذه المدن الملعونة حاملا في أسفله لغما يخاف أن ينفجر في أيّة لحظة.
عندي نداء جدّي إلى كلّ المجالس البلديّة المنتخبة المنصّبة حديثا، وإلى هذه الدّولة الموقّرة السّعيدة:
يا أخي السّماح! احنا مسامحيكم دنيا وآخرة في كلّ شيء، لا نريد تنمية ولا تشغيل ولا كهرباء ولا ماء صالح للشّراب ولا هاتف ولا ويفي ولا نقل عموميّ ولا مناطق خضراء ولا أيّ أيّ شيء! السّماح دنيا وآخرة في كلّ شيء!
نريد فقط أن توفّروا لهذا الشّعب الّذي ابتليتم به وأنتم له كارهون بيوت راحة عموميّة تليق بالبشر، في المدارس وفي المستشفيات والمعامل وفي كلّ الأحياء. بيوت راحة نظيفة صحّيّة تحترم حرمة الإنسان وكرامته…
وإذا استعصى عليكم ذلك واستحال واقعيّا وفنّيّا ولوجستيّا، فإنّنا نطالب الدّولة أن توفّر لهذا الشّعب السّعيد سدّادات، سدّادات من الفلّين أو المطّاط، موش مشكل، المهمّ أن توفّر لنا سدّادات كافية للكبار والصّغار وللرّجال والنّساء ومن مختلف الأحجام، كي نسدّ بها كلّ ثقوبنا عند الخروج إلى الشّارع، من باب الاحتياط، كي لا نوسّخ بيئتكم الجميلة.

Exit mobile version