حوار مع صديقي اليساري
فتحي الشوك
كانت الساّعة تشير إلى الواحدة بعد الزّوال حين رنّ جهاز هاتفي، إذ بصديقي على الخطّ يطلب منّي المجيء قصد فحص إبنه لوعكة صحّية أصابته، قطعت حوارا كنت ابتدأته مع زوجتي بشأن إبنتنا الصّغرى، فدراستها شبه معطّلة ومصيرها رهين صراع نجوم بين المرّيخ و زحل.
حملت حقيبتي وسارعت الخطى لأمتطي أوّل تاكسي اعترضني، جلست بجانب السّائق وأشرت عليه بمقصدي، كان شابّا كثّ اللّحية يلوك علكة بشكل مستفزّ، ابتسم لي بنصف ثغر وانطلق إلى حيث أريد على نغمات موسيقى صاخبة منبعثة من جهاز المذياع تنقطع من حين لآخر لتبثّ بعض الومضات الإشهارية… عن آخر ما صدر في مجال التجميل والتخسيس… إعلانات لمطاعم فاخرة… وبعض مداخلات المواطنين السّاخنة في طفرة الحرّية، يتحدّثون فيها عن الأستاذ الّذي تحوّل إلى وحش نهم لا تهمّه سوى الدّروس الخصوصيّة، عن أزمة البيض والبطاطس والحليب والدّواجن وتدهور الظّروف المعيشية، عن غزلان الصّحراء المشوية، وعن الّتعويضات وانهيار الدّينار وإفلاس البلاد واصطدامها بحائط وانفجار وشيك، تلك حتمية ومردّ كلّ ذلك ثنائيّة الحرّية والاخوانجية، مختتمين تدخّلاتهم بخلاصة متحسّرة على أيّام العبودية والدكتاتورية ليختمها السّائق العشريني وهو يتأوّه: “يا حسرة” وكأنّه كهل خمسيني قد أضنته السّنون وليلتفت إليّ منتظرا منّي تأكيدا فأشرت عليه بأن يتوقّف وعاجلته قبل أن يستفسر: “سأكمل المسافة على القدمين ذاك أنفع لمثلي، شكرا يا بنيّ”.
كنت استحضر خلال تلك الأمتار القليلة الّتي تفصلني عن منزل صديقي فلما شاهدته مؤخّرا (صندوق الطّير bird box) يصوّر عالما موبوءا على وشك الفناء، لا مفرّ فيه للنّجاة إلاّ بالامتناع عن الرّؤية بعصب العينين ويبدو أنّ علينا كذلك وضع صمّامات الأذنين، تذكّرت مقولات غوبلز وأنا أتحسّس حجم فعل الدّعاية السّوداء.
استقبلني صديقي بالأحضان وهو يهمس في أذني سؤال العادة: “متى نراك بسيّارة؟” فأجبته كما اعتاد أن يسمع منّي: “ربّي يسهّل”. فحصت الصّبي وهو يبكي خشية من وخز إبرة محتملة ولم يهدأ إلّا حينما كتبت الوصفة وسلّمتها لأبيه الّذي أصرّ على أن يصطحبني معه ليوصلني بسيّارته، تحوّل إلى أقرب صيدلية ليقتني الدّواء وبعد أن سلّمه إلى أهله خاطبني ممازحا: “سأقوم بعملية تحويل وجهتك”، متوجّها إلى إحدى المقاهي الرّاقية الّتي انتشرت كالفقاقيع في أرجاء المدينة ودعاني إلى ارتشاف قهوة وبعض الدردشة… كنت متيقّنا ممّا سيحدّثني به صديقي، فقد سبق أن تناقشنا واقعيا وافتراضيا وسبق أن حضرني بعد يأسه منّي فهو يصنّف نفسه يساريا تقدّميا حداثيا مستنيرا نصير المستضعفين والكادحين وأنا برأيه إخواني الهوى، رجعيّ من الظّلاميين، جمعتنا السّاحات ما قبل الثّورة وأيّامها حينما كان للبوح ثمن وللمواقف ثقل رزين وحينما كانت للجدران آذان وللأسقف عيون لتفرّقنا مجزرة رابعة واعتصام الأرزّ والبراميل المتفجّرة لبشّار الممانع.
أشعل سيجارة وأمدّني بواحدة من عنده فاعتذرت ممازحا: “حبيبتي لن أخون” لأشعل واحدة من عندي “الصّفاء” الّتي صار العثور عليها أصعب من “الزطلة” والأفيون.
أخذ نفسا عميقا لينفث دخّانا كثيفا ليتراءى المشهد مع الفانوس المعلّق في السّقف وكأنّنا في غرفة تحقيق، لا أدري كيف تحوّلت ملامح الطّيبة على وجهه إلى تضاريس باهتة قاسية مرتسمة على صفحة وجه محقّق لا يعرف الرّأفة لينهال عليّ بالأسئلة: “ما رأيك في النّقابة والاتّحاد وما يحاك من قوى الظّلام للبلاد؟ ماذا تقول في الاغتيالات وفي الجهاز السرّي لتنظيم الإخوان وماذا عن تنظيمهم العالمي المخترق والمخرّب للأوطان؟ وكيف لك بعدما انكشفت لك جلّ الحقائق أن تصطفّ مدافعا عن مجرمين مفسدين لا خير فيهم ولا أمان؟
تركته يسترسل حتّى أفرغ ما في جعبته ليصمت منتظرا منّي الإجابة: فأوضحت له بأنّه غبيّ من يستهدف الاتّحاد كهيكل معدّل وموازن كان ولازال له دور وازن لكنّه لا يرتقي إلى قداسة تعفيه من الانتقاد في منظومة منتجة للفساد لم تستثن أحدا، هياكل أو أفراد ومن الواجب إصلاحه وتحريره من سجن الإيديولوجيات والحسابات الضيّقة حتّى يستعيد دوره ولا يقزّّم ويتحوّل إلى إحدى الدّكاكين الحزبية وما أكثرها. أمّا عن الاغتيالات فالإجابة لن تكون إلاّ بمن المستفيد؟ ثمّ ماذا عن التّوقيت؟ وكيف تمّ الاستدراج وأين السّائق والشّاهدة الّتي تبخّرت كفصّ ملح وكيف تواطأت الأقدار فأزاحت الأستاذ بن مراد بسكتة قلبية والمخرج العشيق بحادث طريق.؟ ثمّ ألا ترى أنّ المستفيدين يعرقلون كشف الحقيقة لمزيد الاستثمار والحلب عبر اختلاق وقائع وتزييف لحقائق من قبيل الجهاز السرّي والغرفة السّوداء الّتي تنقصها بعض الأضواء الحمراء لتكتمل عناصر الايروتيكا ويحصل الإشباع؟
وبخصوص التنظيم العالمي للإخوان المسلمين أجبته بأنّ سؤاله يستبطن قدحا في الانتماء والتّخوين فهو أشبه بتخويف العيال بالغول، فهل يحقّ إن كانت المسألة تلاق وتقارب ونهل من مرجعية واحدة أن نتحدّث عن تنظيم عالمي للرّفاق اليساريين؟
قاطعني صديقي وقد احتقن غضبا واحتدّت نبرة صوته: “أنت إخواني، لم لا تعلنها صراحة؟” أجبته بثقة: “لا .. ذاك شرف لا أدّعيه إنّما هم إخواني تماما كما أنظر وللأسف ربّما بعكس ما تنظر إلّي”.. ساد الصّمت لوهلة ليمسحني بنظرة ثاقبة كجهاز كشف بالأشعّة وكأنّ الشكّ يساوره في أنّ لي عقل، عقل كما يتصوّره في مخياله ليهيج مرّة أخرى ويفرغ فيّ شحنة من الاتّهامات وكأنّه يتمثّل فيّ مرشد الإخوان أو القرضاوي أو الغنّوشي أو أردوغان: “أنتم خونة بعتم الأوطان، لا تستحقّون الحياة، ورم سرطاني وجب استئصاله، لن يهنا لنا بال إلّا بذلك، ما تستحقّونه الزنازين والمشانق”، أجبته بنظرة حمّلتها بعض جميل ما يجمعنا ليهدأ وننغمس في صمت خرقه صوت رنين هاتفي لتذكّرني زوجتي بقائمة ما سأجلبه معي إلى المنزل.
امتطينا السيّارة وكأنّ على رؤوسنا الطّير في لحظة جلد لذوات لامست المحظور لينكشف ما فينا من عمق مكنون، شغّل صديقي المذياع في محاولة للتنفيس والحدّ من الجوّ المشحون فإذا بأحدهم يقدّم مشروع إعدامات كبرنامج انتخابي للرّئاسيات وأخرى تعلن أنّها قريبا ستتحوّل إلى فصيلة الكنابيليات وستأكل لحم من جوّعها، لينقذنا صوت الآذان وهو يتعالى فنتوقّف عند أوّل جامع ونتوجّه بأجسامنا نحو نفس القبلة ونؤدّي الصّلاة، غمرني شعور حينا منعني من الخشوع كمن يردّد على مسامعي: “وكأنّنا لا نعبد نفس الإله وكأنّنا لا نقرأ من نفس القرآن وكأنّه لا تجمعنا نفس الأوطان وكأنّنا لا ننتمي لنفس فصيلة الإنسان”.