حسن الصغير
كانت ليلة فاصلة بين يومي الجمعة والسبت، والفصل شتاء قارسا من أواخر سبعينيات القرن الماضي. فقد كان والدي رحمه الله يتخلف كل يوم جمعة للصلاة ثم يقضي الليل في منزل أحد الأقارب في مركز القرية ليعمل صباح السبت ثم يعود للمنزل مع منتصف النهار.
وكنا في تلك الفترة نعتمد كليا في حال غياب الوالد على المذياع الصغير لتحديد الوقت، لكن في تلك الليلة كان المذياع لا يعمل لعطل طرأ عليه قبل أيام.
نمت باكرا ككل ليلة شتائية في بيت يخلو من الكهرباء والتلفزيون وغاب فيه صوت المذياع الصغير على أمل أن أفيق ككل يوم عند الفجر لأقطع الطريق الممتدة على طول سبعة كيلومترات لألتحق بالمدرسة البعيدة التي أصلها عادة بعد طلوع الشمس بقليل.
ولا أدري كم من الوقت نمت عندما أفقت على صوت أمي وهي تهزني لأستيقظ وأستعد للحاق بالمدرسة وهو تقول إن الفجر على وشك الانبلاج.
أفقت متثاقلا ولم أكد أخرج إلى الساحة الأمامية لبيتنا المتواضع المكون من غرفتين فقط حتى لفحني برد ليل الشتاء وأطار بقايا النوم من عيني، بحثت عن سطل الماء لأغسل وجهي ووجدته بصعوبة بسبب الظلام الدامس فكنت عندما أغترف الغرفة بيدي وأمسح بها وجهي كأني أضع عليه قطعة من الثلج حتى كدت أفقد الإحساس.
وفي دقائق معدودة تجهزت للذهاب بعد أن أكلت بعض الكسرة والزيت وارتديت القشابية وتأبطت حقيبة كتبي التي هي عبارة عن كيس من القماش، وركضت نحو الطريق وأنا أرقب من طرف خفي أمي الواقفة تشيعني بنظراتها حتى ابتلعها الليل.
سرت أحث الخطى وأتوقف بين الحين والآخر وأحبس الأنفاس لعلي أسمع وقع خطى بعض التلاميذ المتجهين مثلي إلى المدرسة لكني لم أكن أسمع غير وقع السكون الرهيب الذي يلف القرية الخرساء، فحتى الكلاب كفت عن النباح بعد أن أخرسها الصقيع فلاذت بعتبات المنازل وحزم الحطب تلتمس القليل من الدفء.
قطعت شوطا مهما من الطريق كنت خلاله أنظر إلى السماء فلا أرى غير النجوم المتلألئة في ليلة يبدو أن صبحها يأبى أن يتنفس.
وحين بلغت “الخنقة” وهي طريق ضيق بين جبلين تجمعت لدي كل المؤشرات التي تؤكد أني خرجت أبكر من المعتاد فحسب التجربة تطل أولى خيوط النور عندما نبلغ هذا المكان، كما جرت العادة أن يلتقي التلاميذ في هذه النقطة من الطريق لكني الآن وحيد في هذا المكان المقفر الموحش فوق أرض يكسوها الجليد وتحت سماء تزداد تجومها تلألؤا كلما أوغلت في السير.
واصلت طريقي وأنا أرتجف من البرد والخوف حتى بلغت المدرسة الغارقة في الظلام، فاتكأت على باب أحد الأقسام وتكورت متدثرا بقشابيتي ثم بدأت أضرب أقدامي على الحائط بحثا عن بعض الحرارة بعد أن كادت تتجمد بسبب دوسها على جليد الطريق الطويلة.
ورغم البرد غفوت، وبعد زمن لا أدري أطال أم قصر أفقت فجأة على ضباب كثيف تتسلل من خلاله خيوط من الضوء تنبعث من خلف جبل ماجورة مؤذنة بقدوم الفجر الحقيقي الذي طال انتظاره.
خشيت أن يأتي حارس المدرسة ويمسكني متلبسا بالمبيت أمام باب القسم، فركضت نحو أشجار الصبار التي تشكل سورا للمدرسة واختفيت هناك منتظرا قدوم التلاميذ، ومستفيدا من الضباب الذي يلف كل معالم القرية تقريبا.
وبعد نحو ساعة بدأ التلاميذ يتوافدون ويتجمعون قرب المسجد الصغير فالتحقت بهم، وعندما سألوني عن سر عدم اللقاء أجبتهم بأني كنت أمشي قبلهم بقليل لكن يبدو أن الضباب حال دون رؤيتي.
دخلنا القسم ثم كانت المفاجأة التي أرعبتني فقد سمعت معلمنا يحكي لزميله عن الضباب، قائلا إنه بدأ عند الساعة الثالثة فجرا تقريبا فاستنتجت أني وصلت إلى المدرسة قبل هذا الوقت ما يعني أني توجهت إلى المدرسة عند الواحدة بعد منتصف الليل تقريبا، وقطعت الطريق وأنا أنتظر انبلاج الفجر قبل ساعات من أوانه!!!