موريتانيا.. على أعتاب "الديمقراطية العسكرية"
محمد مختار الشنقيطي
يبدو أن موريتانيا بدأت تنتقل من الاستبداد العسكري إلى “الديمقراطية العسكرية” التي نستعملها هنا، بمعنى المرحلة الانتقالية من الحكم العسكري إلى الحكم المدني التي يقودها عسكريون يملكون حاسَّة سياسية. فكل المؤشرات تدل على أن الرئيس العسكري الحالي محمد عبد العزيز سيخرج من الرئاسة رغم حرصه على البقاء فيها، وأن رئيس موريتانيا القادم سيكون صديق دربه الجنرال محمد الغزواني.
ويستطيع غزْواني أن يجعل رئاسته بداية جدِّية للانتقال إلى الدولة الدستورية ذات السلطة المدنية، إذا تحرَّر من ظل عزيز، وحَرِص على الإجماع السياسي، وأدرك حتمية الإصلاح وضرورة التغيير. وفي كل الأحوال فإن مجرد اضطرار الرئيس عزيز للرحيل صاغراً، وعجزه عن تغيير الدستور لتمديد رئاسته، مكسبٌ مهم للتطور السياسي في موريتانيا، وتقريبٌ لها من الانتقال إلى الحكم المدني الدستوري. وذلك ما نشرح حيثياته في سياق هذا المقال من خلال الحديث عن المؤثرين الثلاثة في المشهد الموريتاني اليوم، وهم: الرئيس المنتهية ولايته عزيز، والرئيس المرتقَب غزْواني، والمعارضة السياسية الموريتانية.
أما الرئيس المنتهية ولايته فهو لم يعلن عدم ترشحه لولاية ثالثة إيماناً واحتساباً، ولا اقتناعاً بواجب تسليم الأمانة واحترام الدستور، وإنما هو مضطر لذلك اضطرارا. ولم يتوقف عزيز وبطانته عن مناورات التمديد والتأبيد إلا بعد فشل جهودهم في ذلك السبيل فشلا ذريعا. فقد أدرك عزيز وحلفاؤه في الداخل والخارج أنه استنزف طاقته، وأنهى عمره السياسي، وتضافرت عوامل عدة قضت على طموح عزيز إلى تغيير الدستور لتمديد ولايته، رغم حرصه وحرص أقاربه ومقربيه على التمديد. ومن هذه العوامل:
أولها: إدراك عزيز أن إصراره على تغيير الدستور سيُدخل موريتانيا في حقبة من عدم الاستقرار، شبيهة بما شهدتْه في ختام حكم الرئيس الأسبق معاوية. بل سيكون فاتحة لانقلاب عسكري على عزيز، من داخل صحبه الأقربين، أو من خارجهم. لذلك فإن الخروج الطوعي آمنُ لحياته، وأوفرُ لثورته الطائلة وغير الشرعية التي جمعها خلال حكمه.
ثانيها: الهاجس الأمني المسيطر على صانع القرار الغربي مما قد تَفيض به منطقة الساحل الإفريقي والصحراء الكبرى على أوروبا من هجرات وعمليات إرهابية وتهريب. وهو ما جعل القوى الدولية ذات التأثير في المعادلة الداخلية الموريتانية غير راغبة في تمديد ولاية عزيز، خوفا من آثارها الأمنية على الضفة الشمالية من البحر المتوسط.
ثالثها: حرص شركات الطاقة الغربية الكبرى على الاستقرار السياسي في موريتانيا، بعد أن بدأت في الاستثمار في الغاز الموريتاني-السنغالي المشترك، فالاستقرار السياسي شرط في نجاح أي استثمار اقتصادي من طبيعة ستراتيجية. ومعروف ما لتلك الشركات من تأثير عميق في صناعة القرار الغربي.
ويطمح عزيز الآن أن يتحول إلى “زعيم”، بعد أن ينتهي دوره كرئيس، وأن يظل يدير المشهد السياسي من وراء ستار، كما حاول علي عبد الله صالح من قبل، بعد إرغامه على التخلي عن رئاسة اليمن لصالح نائبه هادي، تطبيقا للاتفاقية الخليجية. لكن عزيزا -في تقديري- لن ينجح في المحافظة على أي تأثير سياسي بعد رحيله. وهذا لا يعني أن صديق دربه الغزواني سيغدر به، أو سيحاسبه على تجاوزاته المالية والسياسية العديدة. وإنما سيجمع غزواني -على الراجح- بين الوفاء الشخصي والقطيعة السياسية في علاقته بعزيز. فهو سيترك له ما حازه من ثروة غير شرعية دون محاسبة، لكنه لن يسمح له بالتأثير في صناعة القرار، ولو من وراء ستار.
إن الرئيس الموريتاني المرتقَب محمد الغزواني رجل مركَّب الشخصية، بعيدُ الغوْر، متشابكُ العلاقات. فهو ينتمي إلى المنطقة الشرقية من موريتانيا، ذات الوزن الثقيل من حيث عدد السكان والتمثيل الكبير في الجيش، وهذا ما سيضمن له عصبية اجتماعية كثيفة يستند إليها سياسيا. لكنه حليفٌ وثيق لعدد من قادة الجيش وذوي المصالح الاقتصادية في المنطقتين الشمالية والجنوبية. وهو واسعُ العلاقات خارج موريتانيا، وقد جمع في علاقاته الخارجية كل التناقضات: فهو صديق للسلطة الجزائرية والمغربية والإماراتية والسعودية والفرنسية والأميركية. أما في الداخل فلا يكاد يوجد أعداء -بمعنى الكلمة- لغزواني رغم تورطه مع عزيز في الانقلاب ضد أول رئيس مدني منتخب في تاريخ موريتانيا عام 2008.
وعلى عكس عزيز ذي البعد الواحد، والخيال السياسي الضيق، استطاع غزواني -بسعَة عقله وقدرته على الاحتواء- أن يحافظ على علاقات معقولة مع جُلّ الفاعلين السياسيين في الداخل الموريتاني خلال السنوات العشر الماضية التي كان فيها شريكا في الحكم مع عزيز، وبنى لنفسه صورة رجل الدولة التوافقي، القادر على بناء مساحات مشتركة مع الجميع، من الموالين ومن المعارضين على حد السواء. ويمكن أن نضيف إلى ذلك نجاحه في بناء سمعة ممتازة داخل الجيش، تارة بالدهاء، وطوراً بالعطاء.
وبهذه العقلية التوافقية البراغماتية، ربما يعيد غزواني الدبلوماسية الموريتانية إلى التوزان الذي فقدته تحت سلطة عزيز، فيجدد العلاقة مع قطر بعد أن قطعها عزيز برشوة سعودية إماراتية في مطلع الأزمة الخليجية الحالية، ويحافظ على ثبات العلاقة مع المغرب -الدولة الأهم للعمق الموريتاني- بعد أن شهدتْ العلاقة معها تذبذبات مزعجة مع عزيز.
ويمكن القول إن أعداء غزواني من داخل مسعكر الموالاة اليوم أكثرُ من أعدائه في معسكر المعارضة، لكن الحاسَّة الحِرْبائية لدى هؤلاء ربما تدفعهم إلى الإحجام عن معاداته، وإعلان دعمه في الرئاسيات، عملا بالمقولة الانتهازية الأميركية: “القفز في العربة وقتَ وصولها.” وقد بدأ بعضُ من كانوا منذ أيام يجمعون التوقيعات لتغيير الدستور وتمديد ولاية عزيز يرفعون عقيرتهم اليوم، إشادةً بغزواني، باعتباره “أفضل خيار لاستمرارية هذا المشروع الوطني الرائد” الذي أسسه عزيز حسب زعمهم.
وأخيرا فإن المعارضة المدنية الموريتانية في اللحظة الحاضرة ضعيفةُ الأداء، مشتتة الصف، وغاية ما ستسطيع إنجازه –على الراجح- هو الفوز بقدْر معتبر من أصوات الناخين في انتخابات يونيو الرئاسية القادمة دون فوز بالمقعد الرئاسي. وهذا مكسب مهم في كل الأحوال لأنه سيكْفُل لها أن تظل جزءا من معادلة التدافع السياسي في البلاد، ويعينها على تحقيق مزيد من المكاسب التكتيكية. وهي مكاسب لا ينبغي التقليل من شأنها، بل إن بعضها أقربُ إلى المكسب الاستراتيجي، مثل نجاح المعارضة في إرغام عزيز على التوقف عن محاولات تغيير الدستور، وإخراجه من السلطة راغماً.
ولا يبدو لدى المعارضة المدنية الموريتانية اليوم قيادة كارزمية قادرة على هزيمة غزواني في الانتخابات، لكن ذلك لا يعني أن جهدها في الانتخابات الرئاسية القادمة غير ضروري أو غير مثمر. وربما يتعين على المعارضة المدنية الموريتانية أن تتبنى ستراتيية سياسية من ثلاثة أركان:
أولها: مزاحمة غزواني بمرشح قويٍّ من الوجوه الوطنية غير المستنزفَة، والحصول على كسب انتخابي معتبر، يضمن لها أن تكون موازنا لسلطة غزواني، ومحاورا قويا معه (باعتبار نجاح مرشح المعارضة ضعيف الاحتمال) وتبدو بعض الأسماء المطروحة حاليا لتكون مرشح المعارضة للرئاسة أسماءً واعدةً، مثل المحامي الحقوقي محمد محمود ولد محمد صالح.
ثانيها: الاستعداد للدخول في تحالفات وتفاهمات مع سلطة غزواني بعد الانتخابات إذا ظهر منه ما يزكِّي الانطباع الشائع عنه بأنه رجل بناء لا هدم، ووفاق لا تفريق. وبذلك تبني المعارضة على إنجازها الاستراتيجي في منع خرق الدستور، وتنجح في ترسيخ مزيد من الحقوق السياسية والدستورية، الرامية إلى تخليص موريتانيا نهائيا من الحكم العسكري.
المرحلة الثالثة: هي ضمان أن تكون الثروة الموريتانية من الغاز التي سيبدأ تصديرها قريبا أحسنَ حظًّا وأكثر فائدة على المواطنين من الثروات السابقة التي تم تبديدها على أيدي الحكام العسكريين السابقين وبطاناتهم. وهذا من أوجب واجبات الوقت في اللحظة الحاضرة من التاريخي السياسي والاجتماعي الموريتاني.
وفي كل الأحوال فإن الانتقال من الاستبداد العسكري إلى “الديمقراطية العسكرية” يظل مكسبا متواضعا، بمعايير الطموح الذي يطمح إليه الموريتانيون، من عدل وحرية ودولة مدنية وعدالة اجتماعية.. لكنه بمنطق السياسة العملية -التي هي فنُّ تحقيق الممكن وبناء الساحات المشتركة- خطوة مهمة نحو ذلك الهدف الأسمى. فهل يكون الرئيس المرتقب غزواني جسراً للعبور من “الديمقراطية العسكرية” ذات الأفق المحدود والسقف الواطئ إلى الديمقراطية المدنية الكاملة ذات الأفق المفتوح والسقف المرفوع؟ أم أنه ستستهويه السلطة والثروة وتَصْرفه عن أداء الأمانة كما استهوتْ وصرفتْ إخوةً له في السلاح من قبل؟! ذلك سؤال سيظل يكبر في الأيام والشهور القادمة من التطور السياسي الموريتاني الجديد الذي
أظلَّنا زمانه.
مدونات الجزيرة