"ڤوڤل"، هذا الغول القادم من كاليفورنيا !

محمد كشكار
ماذا فعلَ بمعلوماتنا الشخصية التي جاءته على طبقٍ من ذهبٍ؟ لوموند ديبلوماتيك،
تأثيث وترجمة بقليلٍ من التصرّف مواطن العالَم
الصناعة الرقمية وسوقُها (L`industrie numérique) ازدهرتْ بفضل فكرة طفولية بسيطة: تستقبلُ جميع المعلومات الشخصية المجانية لكل مستعملي الأنترنات، تَستخرجُها، تُجمِّعُها، تُبوِّبُها، تُصنِّفُها، تُسلعِنها، ثم تبيعُها بأسوامٍ خيالية باهظة الثمن للدولة والخواص.
ما هي المعلومات الشخصية التي يستغلُّها “ڤوڤل”؟
(Google, le moteur de recherche numérique supposé le plus utilisé, le plus efficace et le plus rapide)
هي: صورُنا، عناوينُنا، تواريخُ ولاداتِنا، نوعيةُ أصدقائِنا، وجهاتُ أسفارِنا، أبطالِنا ورموزِنا وميولاتنا ومعتقداتنا في الدين والفكر والسياسة والفن، أذواقنا في الغذاء والموضة والموسيقى، هواياتنا في الرياضة والثقافة والأدب والعلم والتعليم، إلخ.
معلومات تبدو في نظرنا تافهة وبلا قيمة اقتصادية، وهي على المستوى الفردي فعلاً كذلك. لكن لو أحصيتها وصنفتها فستصبح كنزًا يُقدَّر بمليارات الدولارات.
لِمَن يبيع الحاج “ڤوڤل” معلوماتنا الشخصية بعد سلعنتها؟
الحريف الأول: غسّالة الأدمغة من شركات الإشهار التجاري الكاذب (Publicité) وشركات التسويق والغش والتزويق (Marketing) حتى يطوّروا أساليبهم وحيلهم القذرة ويجوّدوا فخاخهم لمزيد اصطياد فرائسهم من المستهلكين المكرَهين المضطَرّين.
الحريف الثاني: غسّالة الأدمغة من مرتزقة السياسة محترفي صناعة الرأي العام من أجل التأثير على الناخبين والتحكم في توجهاتهم قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع “الديمقراطية” في الانتخابات الرئاسية والتشريعية والاستفتاءات الوطنية.
الحريف الثالث: “ڤوڤل” يبيع إلى مجموعة شركات تدفع لتكسب أكثر بكثير ودون سقف، شركات أنشَأت لهذا الغرض بالذات أسواقًا جديدةً، اسمها أسواق السلوكات البشرية حاضرًا ومستقبلاً.
ماذا يبيع العطّار “ڤوڤل”؟
يبيع معلومات استشرافية حول السلوكات الفردية المستقبلية لمستعمليه، أي عبيده. سلعة افتراضية، سلعة دون كتلة ولا وزن، سلعة تباع أغلى من الذهبِ.
صاحبنا خلق إمكانات جديدة لاستخراج واستنتاج أفكار الأفراد والمجموعات وعواطفهم وانفعالاتهم ونواياهم ومصالحهم بواسطة آليات متطورة تشتغل كمرآة دون طِلاء (miroir sans tain). آليات تتجاهل وعيَ المستعملين ولا تنتظر موافقتهم المسبقة. مَجازُ المرآة دون طِلاء يرمز إلى العلاقات الاجتماعية الرقابية الخاصة المرتكزة على عدم تناسق ممتاز في المعرفة وفي السلطة بين “ڤوڤل” ومستعمليه.
منذ سنوات شرع “ڤوڤل” في توسيع هيمنته خارج حدود محرّكه لتشمل كل مجالات الأنترنات (مايل، فيسبوك، مسّانجر، سكايب، فايبر، تويتر، أنستاغرام، يوتوب، إلخ.) وتحتلها ثم تحوّلها إلى مستوطنات ترتع فيها إعلاناته الإشهارية الموجهة إلى جمهور مستهدف محدَّد بحِرفية تجارية عالية. وبهذه الطريقة يستطيع أن يستخرج ويحلل محتويات أصغر صفحة تُنشَر على الأنترنات ويرصد أقل حركة لكل مستعمل للأنترنات بواسطة علم تحليل النصوص (La sémantique) والذكاء الاصطناعي مع احتمال استخراج المعنى: هذا الفرع من شركة “ڤوڤل” حقق يوميًّا أرباحًا بقيمة مليون دولار، رقمٌ تضاعف 25 مرة سنة 2010.
هل نحن، مستعملو “ڤوڤل”، فاعلون في إنتاج القيمة المضافة؟ (Les sujets de la réalisation de la valeur)
طبعًا الجواب بالنفي. لسنا أيضًا، عكس ما يعتقد الكثيرون، السلعة التي يبيعها “ڤوڤل”. مَن نحن إذن؟ نحن منجم افتراضي يَستخرج منه “ڤوڤل” معدنًا، يستحوذ على ملكية هذا المعدن، ثم يصهره في أتُونه، يصقله في مخابر مصانعه، فيصبح ذهبًا خالصًا يبيعه لحرفاء حقيقيين.
هل وقف عَمّو “ڤوڤل” عند هذا الحد؟
لا، عَمّو اللقيط المستِر “ڤوڤل”، عَمٌّ لا يستحي ويفعل ما يشاء. الحلّوف حلّوف ولو حمّمته في بانو ورد!
شنَّ علينا، نحن فقراء العالَم الأول والثاني والثالث، شنّ حربًا استباقية والشيء من مأتاه لا يُستغرَبُ. أليست جنسيته أمريكية؟ وأمريكا شنّت 200 حرب استبقاقية على دول العالم القوية والمستضعفة منذ تأسيسها “المشوم” على البشر كلهم بما فيهم الأمريكان الفقراء أنفسهم وعددهم يفوق الـ50 مليون نسمة.
فيما تتمثل هذه الحرب الاستباقية؟
عوض أن يكتفي بجمع وتصنيف ما توفّر له مجانًا من معلومات شخصية، شرع في قراءة أفكارنا ونوايانا وتحليلها من أجل استلابنا استلابًا كاملاً. استلابٌ يجعلنا ننطق بمنطقه، نتكلم بلسانه، نعبّر عن شهواته ونتبناها وكأنها شهواتنا. فعل فينا ما يفعله فيروس السيدا في خلايا الكريات البيضاء: اندمج في آدِآنها (ADN) فأصبحت الخلية تُصَنِّعُ عدوَّها بنفسها وبالملايين.
“ڤوڤل” سلبنا إرادتنا، استوطن أمخاخنا وعقولنا، استلبنا حتى النخاع، جعلنا نتماهى مكرَهين مع مصالحه الرأسمالية الأنانية الربحية المشِطّة الجشعة جدًّا حتى خِلناها مصالحنا نحن، وذهب في ظننا أن أفكارَه هي من بَنات أفكارنا وأن اختيارَه هو اختيارنا النابع من إرادتنا لا إرادته.
ويحك يا كشكار، يا سارق الأفكار، يا عديم الصفة في هذا المجال الرقمي البعيد على اختصاصك المحدود ومخك الصغير (1300غ)، يا منتحل صفة! مالَك وسِيدَكْ الشيخ “ڤوڤل”: صوّرتَه لنا وكأنه لم يبنِ شيئًا يُذكر فيُشكَرُ!
ومَن قال أن الفسادَ لا يبني؟ على العكس فهو ولا أحدَ غيره مَن بنَى كل الحضارات الإنسانية الإمبريالية دون استثناء!
لولا فساد العبودية لَما شُيِّدت أهرامُ الفراعنة في مصر وأهرامُ المايا في أمريكا الجنوبية، ولَما تَفرّغَ فلاسفة أثينا للجدل والتفكير والتنظير في شتى مجالات المعرفة والفن والجماليات والأخلاق!
لولا فساد الإبادة العرقية للهنود الحمر لَما أسِّست أكبر قوة ظالمة في العالم الحديث، أمريكا!
لولا فساد الاستعمار لَما تقدّمت أوروبا!
والمفارقة الكبرى (Le grand paradoxe) أن الحضارةَ الأقل بناءًا هي الحضارة الأقل فسادًا؟ نعم، وهي، لحسن حظنا أو لسوء حظنا، لا أدري، هي حضارتُنا العربية-الإسلامية! حضارةٌ لم تبنِ أهرامات ولا قصورًا ولا أسوارَ، لكنها بَنَتْ فكرةَ “لا إله إلا الله”، والفكرةُ أبقى من الحجرِ! عند الفتح، مَنَعَ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الصحابة من تأسيس نظام إقطاعي في العراق. أخطأ أو أصابَ؟ الله أعلَم؟
La civilisation arabo-musulmane est victime de son succès (l`esprit égalitaire y est plus développé que dans les autres civilisations concurrentes, chrétienne et juive. Idée du marxiste Habib Ben Hamida, le fameux philosophe de Hammam-Chatt
هو شرٌّ كله إذن يا عِرّيفْ زمانه؟
لا، لم أقل ذلك، فالشر دون خير يستحيل وجوده كالفيروس دون خلية حية تستحيل حياته!
كيف تُفسّر إذن مجانية خدماته الجليلة المتمثلة في مساعدتنا على التواصل وحرية النشر والتعبير والبحث عن المعلومة المفيدة بسرعة البرق بواسطة محركاته البحثية النفّاثة؟
هو ليس غبيًّا حتى يذبح الدجاجة التي تبيض له كل يوم بيضة من ذهب عيار 24 كارا! لن يخاطر اقتصاديًّا ويطلب مقابلاً من عبيده مستعمليه وإلا خسر كل شيء.
كيف تُفسّر أيضًا إمكانية فتح حساب “ڤوڤل” جديد مزيّف دون مَدِّ هذا النظام بأي معلومة صحيحة؟
“لوموند ديبلوماتيك” طرحت الإشكالية ولم تُجبْ عليها، وأنا لستُ مختصًّا وليس لي ما أضيفُ. لكنني أكاد أجزم أن الثعلب لا يفعل شيئًا لوجه الله وأكيد له مآربَ لا يعلمها إلا هو ورب العالمين! ومتأكد أيضًا أن لا خيرَ يأتي من عنده لصالح الشعوب قاطبةً!
خاتمة شخصية
“ڤوڤل”، العزيز على قلبي، قدّم لنا مشكورًا خدمات لا تُحصَى ولا تُعَد ويسّر لنا سُبُلَ تَواصُل ولولاه لَما يُسِّرت، وأنا أعتبرُ نفسي على المستوى الشخصي أول وأكبر المستفيدين، لكن ألا تعلمون أعزّائي أن جهابذة الصناعة الرقمية وأصحابها في أمريكا يُدخِلون أبناءَهم مدارسَ يُحجَّر فيها تمامًا استعمالُ الأنترنات. ولكم في المثال موعظة يا أولِي الألباب.
المصدر:
Le Monde diplomatique, janvier 2019, Extrait de l`article «Votre brosse à dents vous espionne. Un capitalisme de surveillance», par Shoshana Zuboff, Professeure émérite à la Harvard School , pp. 1, 10 et 11
إمضاء مواطن العالَم
“النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ” محمد كشكار
“المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ” فوكو
“وإذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ” جبران
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الاثنين 28 جانفي 2019.

Exit mobile version