فتحي الشوك
قد لا أتّفق كثيرا مع الرّجل، هو نرجسي مصاب بجنون العظمة وبمرض الزّعامتية المزمن الّذي تمكّن من كثير من السّياسيين وأشباه السّياسيين، مواقفه متقلّبة متلوّنة كحرباء وتتغيّر حسب مؤشّرات البورصة، أدواره مشبوهة منذ ظهوره على قناة الجزيرة في برنامج الاتّجاه المعاكس في مواجهة الغنّوشي حين عرض عليه العودة إلى تونس مقدّما وثيقة بإمضاء المخلوع نفسه، مبيّضا للنّظام ومحوّلا الذّئب إلى حمل وديع وزوجة الذّئب إلى زينة العابدين الّتي لا تفوتها صلاة، الحريصة على تلقين بناتها أصول الدّين، كان يتحدّث بثقة وكأنّه من أهل البيت وأكيد أنّه لا يقدح حينها من رأسه فذاك شأن المخبرين.
غاب لفترة ليظهر مع أيّام الثّورة وليحقّق مفاجأة مدوّية باختراقه للمجلس التّأسيسي بكتلة من المهرّجين واستمرّ في نفس النّهج مع استدعائه كعجلة خامسة لقطع الطّريق أمام المرزوقي بتشتيت الأصوات، كانت وعوده كمشاريع فنكوش السّيسي وكالبرنامج الانتخابي للسّبسي الّذي “يدوّخ” ويخدّر تماما كالهيرويين: صحّة مجانية للجميع وآلاف الوظائف وتعدّد الأزواج وتحويل العاصمة إلى القيروان.. هراء لا يختلف عمّا يصدر من البقيّة: كذب مفضوح وممارسة للشّعوذة وضحك على الذّقون في بلد يبشّر بتحوّل جذري وسط مستنقع الاستبداد العربي، سعى الجميع إلى وأده قبل أن تنتقل إليهم العدوى.
ُيستحضر الرّجل و يُغيّب بميعاد لتنفيذ بعض المهمّات الخاصّة الّتي قد تكون خالصة الأجر، تلك السّياسة فهي لا تخلو من خبث ودناسة عندما تمارس بلا أخلاق.
هو لا يختلف كثيرا عن غيره في وقت شهد طفرة لطبقة من السّياسيين الانتهازيين المتنطّعين، يستعملون ككمبارس وطابور خامس صالحون لمرّة واحدة وأفضلهم لمرّات عدّة، وظيفتهم تمكين واستمرار من يحكمون فعلا مباشرة أو من وراء السّتار، “الملّاكة” من يحملون جينات الحكم وراثة، الّذين قد يسمحون ببعض التنفيس بديمقراطية شكلية فولكلورية معولبة تخضع لقانون السّوق وبمواطنة مزيّفة لا تتجاوز مفهوم المساكنة.
مشهد تعزف فيه جوقة محترفة بإيقاع متناغم ليظهر على الرّكح من يرقص ويهرّج ويشدّ الجمهور التّائه الحائر الّذي قد يستحقّ من حين لآخر إلى بعض الزغاريد الإيديولوجية العتيقة ولم لا إلى زطلة وطنجية من الصّنف الرّفيع.
دعاية سوداء قائمة على الإشاعة وهرسلة متواصلة لبعض الصّادقين، من يغرّدون خارج السّرب، ترذيل لكلّ قيمة وتطبيع مع القبح والرّداءة وتأزيم مبرمج لواقع يتأزّم يجعل الفرد يعيش رهابا مزمنا ليندم على اللّحظة الّتي جعلته يفكّر في أن يغيّر أو يتغيّر، فالوضع يتدهور ويومه أسوأ من أمسه وغده مفقود والأنسب اعتذار للجلّاد واستجدائه كي يعود، وإن تعذّر فاستنساخ لمثله.
ويستمرّ الهرج ويتواصل الإلهاء، من مساواة الميراث إلى تعدّد الزوجات إلى الجهاز السرّي والاغتيالات إلى التعويضات الّتي أفلست البلاد إلى عطر محرزية وأسنان الغنّوشي الأمامية ووجه الغنّوشي الّذي لا يستحقّ الرّئاسية إلى الهاشمي الحامدي الّذي استنفذ دوره ليكتشف انّه من وراء “البلايك” الجنوبية. استثارة بافلوفية متكرّرة وستتكرّر وإجابات غريزية فورية وإمعان في الإلهاء عن استحقاقات اللّحظة.
المشهد مرتبك و معقّد يستحقّ منّا وقفة ، فكّ لرموز الشّفرة و قراءة معمّقة بين السّطور أو “للبلايك” و ما وراء”البلايك”.
ففي الحقيقة فإن ما ذكرته تلك النّمطية الّتي لا ترى مانعا في أن تتعرّى قد تعرّت وكشفت ما تبطن وما يبطن خدّام منظومة “البلايك”، فكلّنا من وراء “البلايك” ذاك ما خطّه عليها من وضعوها وحتّى من يظنّون أنفسهم أمامها فهم يتوهّمون، تماما كعبيد المنازل وعبيد المزارع حينما كان السّاحر الأبيض الأمريكي يتلذّذ بمشاهدتهم وهم يصرعون بعضهم بعضا.
هذه “البلايك” الّتي قد تتّخذ شكل لوحات ماكروسبية كتلك الإشهارية الّتي لا تغفلها عين وقد تغرس كشرائح ميكرسكوبية في الأدمغة لتشحن بمعطيات متغيّرة، متحوّلة ومتحكّم فيها عن بعد والاستثارات متنوّعة قد تأخذ أبعادا طبقيّة، عنصرية، إيديولوجية، مناطقية، عشائرية، قطاعية أو رياضية.
دوما يوجد ما يفعّل ليفرّق ويشتّت ويلهي الجمهور المغيّب الموجّه على أن يفكّر في أن يواجه من وضع “البلايك” ليسقطها وليغيّر قواعد الاشتباك، من معارك طواحين الهواء الدّونكيشوتية إلى اشتباك اجتماعي حقيقي يحقّق له مواطنته، هي معركة وعي طويلة وقاسية لكن لا بدّ من خوضها.
قراءة في "البلايك" وما وراء "البلايك"

فتحي الشوك