علي المسعودي
سأحدثكم عن صديق ..
كان له منزل بأطراف المدينة، شيده في غفلة من جنون أسعار البناء قبل ثلاثة عقود… بعض جيرانه يعملون في قطاع التعليم، والبعض الآخر من أصحاب المهن الحرة محامين وأطباء… وكانت تزعجه هذه الجيرة وتسعده في نفس الوقت.. وكان يمتلك سيارة قديمة.. لم يفارقها منذ عشرين سنة.. ويستحضر دوما معاني “العشرة” والعاطفة لتبرير احتفاظه بها كل هذه السنوات.. كان له ثلاثة أبناء يتابعون دراستهم الجامعية: الأكبر والأوسط على وشك التخرج، والصغرى على وشك إنهاء عامها الأول .
كثيرا ما أجالسه في مقهى أنيق يدعوني إليه.. ولا أذكر أنه سمح لي مرة واحدة بدفع الحساب.. كنا متوافقين في المزاج: هو يحسن الكلام، وأنا أحب الاستماع.. هو يحب الحديث عن نفسه، وأنا أحب تمطيط هذا الحديث بأسئلتي التي لا تنتهي..
كان لا يكل من الاسترسال في سرد القصص التي لا يرضى فيها بأقل من أدوار البطولة.. ولكنه يعرف متى عليه التوقف.. كلما نظرت إلى الساعة -حتى بدافع الفضول- نظرة خاطفة، يقف فجأة كمن تذكر أمرا مهما ويقول لي: … صديقي، أنا مضطر للانصراف.. سنكمل حديثنا غدا، ثم ينادي عامل المقهى بشيء من التعالي المصطنع..
هو في الواقع رجل ميت، لا حاضر ولا مستقبل له.. إلا بقدر ما تتيحه جلسات الاستماع في المقهى من حماسة للبقاء على قيد الحياة، والنظر إلى الوراء بحنين جارف وغريب.. كنت طبيبا، خالص الأجر، يدفع عنه بشاعة الواقع.. وكان يدرك ذلك، في اللاوعي العميق، حتى أصبح لقائي به نوعا من المورفين الذي يقتل الألم.. ولكن إلى حين. !
عندما تستمع إليه، تدرك للوهلة الأولى أن الرجل قد توقف به الزمن عند ثمانينات القرن الماضى، فلا يحدثك إلا عن تفاصيل هذا العصر الذهبي كما يسميه، وعن طيب الحياة فيه.. ويكاد لا يذكر لك شيئا عن حياته الحاضرة.. ولكني أعرف.. أعرف عن الثمانينات، وأكثر من ذلك عن أيامه الراهنة..
إعرف أنه فكر يوما في بيع منزله، ليوفر لأبنائه ما يكفي لاستكمال دراستهم الجامعية.. ولكن العائلة الموسعة منعته من ذلك..
أعرف أنه فكر أيضا في بيع سيارته القديمة.. ولكن الثمن البخس الذي عرض عليه رده عن هذا التفكير.
أعرف أنه لم يشتر ثيابا جديدة منذ سنوات، له ولأبنائه.. وأنه يخصص يوم الثلاثاء من كل أسبوع ليجوب محال “الفريب” في المدينة حتى يوفر على نفسه قليلا من النقود..
كان يصر على إنجاز هذه المهمة بنفسه، دون مساعدة.. وكان لا يؤمن بضرورات العصر..
عندما تشاهده مارا في الطريق، بلباسه اللافت والمثير، ستظن أن الرجل قد أفلت، لتوه، من عصر آخر، بــ “موضته” وأزيائه التي اندثرت.. والأدهى أنه لم يتعب يوما من محاولة فرض ذوقه على الجميع.. الأمر الذي جلب له خصومات لا تنتهي.. مع الأبناء.
ومع ذلك فالرجل له هيبته التي تفرض نفسها على كل المحيطين به.. وهم قلة على كل حال.. وحتى الذين يسخرون من هيئته، لا يجرؤون على أكثر من نصف إبتسامة تمحي، فجأة بمجرد، إقترابه..
صديقي يمتهن التدريس منذ بداية ثمانينات القرن الماضي.. ورغم ولعه بالتأريخ، فإن التاريخ ليس مادة إختصاصه..
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.