عادل بن عبد الله
لعل من أبرز سمات المشهد السياسي في تونس بعد الثورة هو كسر الاحتكار السلطوي للعديد من المفاهيم، بل كسر احتكارها لصناعة أنظمة التسمية وما تعنيه من دمج أو طرد في مستوى بنية السلطة الزبونية. فقد تفككت تلك البنية وفقدت مركزيتها على الأقل شكليا، ونتج عن ذلك عودة سلطة الكلام إلى العديد من الأطراف التي كانت مقموعة أو مهمشة زمن المخلوع. ولكنّ هذه الحرية التي وفّرتها الثورة لم تعن القدرة على بناء مفاهيم جديدة تكون قاعدة لبناء مشترك مواطني يقطع مع زمن الاستبداد، بل كانت تعني واقعيا استصحاب أغلب المفاهيم التي أنتجها النظام بلحظتية الدستورية والتجمعية. فاحتدام الصراع الهووي الثقافوي بين الإسلاميين والعلمانيين جعل “ضرائر” السرديات الكبرى يحتمون جميعا بالأساطير المؤسسة للدولة- الأمة، تلك الأساطير التي مثلت القاعدة الأيديولوجية للبنية السلطوية السابقة للثورة. وكانت طبيعة الدولة وعلاقتها بالدين وبـ”النمط المجتمعي التونسي” من أهم القضايا السجالية التي حاولت القوى اللائكية أن توظفها في حربها المفتوحة ضد “الإسلام السياسي”، خاصة حركة النهضة. وكان مفهوم “الدولة المدنية” المُهدَّدَة بمشروع الإسلام السياسي قضية مركزية في هذا السجال. فكيف فهمت النخب العلمانية مفهوم “المدنية” بعد الثورة؟ وكيف أدارت النهضة هذا السجال “الأيديولوجي” الذي فرضته عليها تلك النخب؟
إن أول ما يلاحظ في خطابات اللائكيين التونسيين حول “الدولة المدنية” هو غياب الضبط المفهومي، بالإضافة إلى طابعه “المطمئن” والمنغلق على قناعاته الرافضة للحوار أو للمراجعة، والمستعصية على النقد الذاتي. فتونس في هذه الخطابات هي (بالبداهة التي لا تحتاج إلى برهنة واستدلال) دولة مدنية منذ بناء الدولة الوطنية، والحداثيون هم “الديمقراطيون” المستأمنون على تثبيت هذه المدنية وحمايتها من خطر الإسلاميين. كما أن فصل الدين عن الدولة وفق النظرة اللائكية الفرنسية (وتَنوستها المأزومة في عهدي بورقيبة والمخلوع) هو الضمانة الأساسية للمدنية. وبحكم الطابع “الدوغمائي” للعديد من الأطروحات “الحداثية” التونسية، وبحكم أولوية الصراع السياسي على الانشغال الفكري، لم يكن من المفكر فيه عند النخب الحداثية طرح ميراث “المواطنة المشروطة” أو “ما دون المواطنة” (وما يؤسسه من المفاهيم والتمثلات وسائر الأنظمة الرمزية)؛ لجدل عمومي يشارك فيه الإسلاميون أو يعبّر عن الواقع السياسي الجديد بعد الثورة. وقد كان مفهوم مدنية الدولة من أبرز المفاهيم التي عانت من الاستعلاء والاحتكار الحداثيَّين. ورغم دخول الإسلام السياسي (وما يمثله من قاعدة شعبية عريضة) فاعلا أساسيا في إدارة الشأن العام، فإن النخب الحداثية لم تر موجبا لسحب مفهوم “اللائكية” الفرنسية إلى ساحة السجال العمومي، والتفكير في مراجعة آليات إدارة العلاقة بين الدين والسياسة انطلاقا من بعض النماذج العلمانية الأخرى التي قد تكون أنسب للمجتمع التونسي، خاصة النموذج الأنجلو- ساكسوني.
بعد الثورة، كان الحداثيون التونسيون يطرحون “مدنية” الدولة باعتبارها مرادفا للائكية الفرنسية، لكن دون الجرأة على التصريح بذلك. كما كانوا يعتبرون تلك المدنية مرادفة للدولة اللادينية، أو على الأقل مرادفة للدولة المتحكمة في الشأن الديني، والمدجنة له ضمن استراتيجيات سلطوية دنيوية لا علاقة لها بالدين، سواء من جهة الشرعية أو من جهة التشريعات والأهداف. ولمّا كانت اللائكية الفرنسية بحكم طابعها التكويني ذاته مرتبطة بالعداء للكنيسة المتحالفة مع الإقطاع، فقد ورث الحداثيون التونسيون العداء للدين ضمن ما ورثوه من مبادئ “الجمهورية الفرنسية” بعد تَونستها (على مقاس السلطة التابعة والمتخلفة) في أساطير “النمط المجتمعي التونسي”. ولمّا كان أغلب الحداثيين قد تماهوا مع “البرجوازية” (ورثة الإقطاع في الفضاء السوسيو- ثقافي التونسي)، فإنهم قد عجزوا عن استصحاب عداء “الثوريين الفرنسيين” لجذري الشر (أي الكنيسة والإقطاع)، واكتفوا بتكثيف العداء للدين أو لمن يرونه ممثّلا/ مماثلا للكنيسة في الفضاء العربي- الإسلامي، أي حركات الإسلام السياسي. أما من يمثلون/ يماثلون “الإقطاع”، فقد تمتعوا عند أغلب النخب الحداثية بـ”تمييز إيجابي”؛ كان ما يبرّره في بعض السياقات هو “المشترك الحداثي” وإمكانية الإصلاح من داخل منظومة الحكم، أما ما برّره في أغلب السياقات، فهو أولوية الصراع ضد الرجعية الدينية، انطلاقا من ثنائية التناقض الرئيس والتناقض الثانوي.
وبحكم هيمنة النخب اللائكية على مفاصل الدولة وعلى عمليات الإنتاج المادي والرمزي، وبحكم التشكيك الممنهج في “مدنيتها” وفي “تَونستها” ذاتها من طرف الخطاب الحداثي، الذي مثّل دور مرجع المعنى المعترف به محليا ودوليا، وجدت حركة النهضة نفسها في موضع كنا قد عبّرنا عنه في مواضع أخرى بـ”الاستضعاف الحداثي”. والاستضعاف الحداثي هو عندنا وريث “الاستعلاء الإيماني” الذي هيمن على الحركة زمن السرية والعمل غير القانوني، أي في الفترة التي لم تكن تطرح نفسها”شريكا” للقوى اللائكية، بل “بديلا” لها. ونظرا لموازين القوى المرتبطة أساسا بالقوة النوعية للنخب، لا بل القوة الكمية للقواعد الانتخابية، فقد كان رد حركة النهضة على التحدي الذي فرضته عليها القوى اللائكية بمختلف منحدراتها الأيديولوجية؛ أقرب إلى التماهي مع طرح تلك القوى بدل محاورته، فما بالك بنقضه؟
ولذلك، بدت حركة النهضة عاجزة عن خلخلة الأطروحات الحداثية المرتبطة بمفهوم مدنية الدولة، ذلك المفهوم الذي كاد ينحصر في التقابل مع المرجعية الدينية في التشريع للمجالين العام والخاص، وفي معاداة التمظهرات الفردية لتلك المرجعية في الأنظمة السلوكية للمواطنين. بل إننا نستطيع أن نتحدث عن “مفارقة” أو تناقض منطقي ارتبط بوجود النهضة ذات المرجعية الإسلامية: لقد فشلت النهضة في أن تكون حتى حزبا محافظا أو أن تعيد “تخليق” الفعل السياسي، فما بالك بأسلمته كما كان متوقعا من قاعدة عريضة من قواعدها المحافظة والمتدينة؟ وهو واقع ساهم في تكريس أساطير النمط المجتمعي، وفي تقوية القبضة اللائكية على عملية إنتاج المعنى الجماعي أكثر من ذي قبل. فقد نجحت النخب اللائكية (اعتمادا على ضعف موقف النهضة) في تمرير مبادرات تشريعية (مثل رفع الاحتراز على بعض بنود اتفاقية سيداو، أو السماح للمثليين بالنشاط العلني أو مشروع التسوية في الميراث، أو المسارعة إلى التطبيع مع الصهاينة بصورة أكثر وضوحا)، وهي مبادرات لم يكن المخلوع ذاته في حاجة إلى صدم الوعي الجماعي بها لإثبات “مدنيته” أو “حداثته”.
ختاما، قد يكون من الحيف القول أنّ المسارات الانتكاسية للثورة تجعل منها مجرد لحظة ثانية من لحظات الجمهورية الأولى (فنحن لسنا في سبت التاريخ ولا في نهاياته رغم كل الخطابات السوداوية)، ولكننا لن نجانب الصواب إذا قلنا إن الأغلب الأعم من النخب التونسية (بلائكييها وإسلامييها) قد فشلوا في الارتفاع إلى مستوى اللحظة الثورية ، وهو فشل مهّد لـ”عودة المكبوت” في مستوى الأنظمة الرمزية، كما ساعد على إعادة تشغيل تلك الأنظمة “اللاوظيفية” بصورة كان محصولها الواقعي (والبعيد عن الادعاءات الذاتية والمزايدات الخطابية) هو تحوّل أصحاب السرديات الكبرى إلى مجرد “جماعات وظيفية” أو “طوابير خامسة”؛ في خدمة الأجنحة المتصارعة على السلطة من داخل المنظومة القديمة. ولم يكن لورثة المنظومة القديمة ليحلموا بالعودة إلى مركز السلطة السياسية، لولا توظيفهم البراغماتي لأصحاب المشاريع الأيديولوجية، وقدرتهم على الاستفادة من الصراعات الهوياتية لتثبيت امتيازاتهم ومصالحهم المادية؛ المرتبطة أساسا باستمرار الأبنية الرمزية لما يُسمى بـ”الدولة الوطنية”، وما يرتبط بها من أساطير “النمط المجتمعي التونسي”.
عربي21