بشير العبيدي
#فنّ_الحياة
حين نتأمّل بعض الكلمات في جميع اللّغات، تستوقفنا المسافة الكبيرة التي قطعتها تلكم الكلمات، وهي في طريقها إلى ألسنتنا، قبل أن تمرّ إلى الأجيال اللاحقة.
أختار لكم أربع كلمات :
الكلمة الأولى من اللغتين العربية والفرنسية : تلك التي تتداولها الألسن بكثرة، وهي الأجرة. في اللغة العربيّة، تحيل كلمة (أجرة) في دلالتها الأصلية على (الكراء) أو (جبر العظم المكسّر)، وكأنّ الأجرة في اللغة العربية، هي بدل أو جبر ضرر الوقت المخصص لأداء خدمة. في اللغة الفرنسية، الأمر يختلف في الدّلالة اختلافا جذريّا. فالأجرة بالفرنسية هي (صالير) (Salaire)، وحين نتأمّل هذا اللفظ، نلاحظ أنّ نصفه مشابه للفظ فرنسيّ آخر هو الملح (Sel)، وحين نبحث في المعاجم عن جذر الكلمة، نجد فعلا أنّ الأجرة بالفرنسية تعني (الملح)، ولا غرابة في الموضوع، فالملح كان في الإمبراطورية الرومانية من الندرة ممّا جعله وسيلة تبادل تجاري، حتّى أن بعض الجند كانوا يستخلصون أجورهم بمقدار من الملح، يتبادلونه بعدها في السوق، نظرا لارتفاع قيمته… والآن، حين يقول تسمع أحدهم يرطن بالقول (أنا أشتغل ب صالير مقداره كذا)، فهو في الحقيقة يتخلى عن كلمة “أجرة” التي معناها دقيق وهو “كراء الوقت”، لفائدة كلمة تعني “الملح” في أصلها…
الكلمة الثانية من اللغة الفرنسية: وهي شبيهة بكلمة (صالير)، إنها كلمة (إيسبيس) (Espèces)، وتعني في التداول العام : النقود، وهي الصرف المعدني أو الورقي المتداول. هذه الكلمة، في أصلها تعني : التوابل (Épices)، وهي كلمة قديمة جدا، وتعود إلى العصر الذي كانت خلاله العملة متخذة من التوابل، وهي الفلفل الأسود، والكمون، والحبة السوداء، وغيرها من التوابل. لقد كانت التوابل عزيزة المنال إلى درجة أن شعوبا بكاملها كانت تتبادل السلع مستخدمة التوابل، حتى شاع في اللغات الأوروبية أن النقد والصرف هو (Espèces) من (Épices) أي التوابل… شمّوا النقود جيّدا، لعلّكم تجدون في رائحتها بعض النكهة للتوابل.
الكلمة الثالثة من اللغة العربية: هي كلمة (الرزق). الرزق عطاء في دلالته الأصلية، إلا أن الحصول عليه لا يكون من دون تعب. بل يتحمّل الإنسان مخاطرة ومشقّة للحصول على رزقه… وهذا بالضبط الذي اقترضته اللغة الفرنسية من اللغة العربية، وبه سمّت المخاطرة (Risque) وهي كلمة مطابقة في لفظها تقريبا لكلمة رزق.
أما الكلمة الرابعة فهي من اللغة الهندية: إذ هي كلمة يعرفها جميع الناس بحكم حاجتهم لغسل أبدانهم. إنها كلمة (Shampoing) التي تعني بالعربية : الغسول، ومن لا يعرف (الشامبوان)؟ فجميع الناس تستخدمه. هذه الكلمة، جاءت من اللغة الهندية (شامبو) وتعني فعل أمر “مسّد” أو “زيّت” باللغة الهندية، وطوّرها خلال القرن الثامن عشر الميلادي تاجر مسلم اسمه شيخ الدين محمد، عندما افتتح حمّاما في مدينة بريغتون (Brighton) البريطانية، وكان يوزّع على حرفائه مادة صابونيّة أطلق عليها “شامبو” ثم دخلت إلى اللغة الانقليزية “شامبوان”…
لو غسلنا لغات العالم بكل ما صنعت البشرية من “شامبوان”، لن نستطيع محو التنوّع اللغوي العجيب…
جمادى الأول 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |