من الإغتراب إلى الإستلاب

زهير إسماعيل
تتداخل حدود الاغتراب والاستلاب في الاستعمال إلى حدّ الترادف، رغم ما يخفى ما بينهما من فروق مهمة.
فالاغتراب هو أن تكون النتائج التي تصل إليها مناقضة للمقدّمات التي انطلقت منها، ويبقى احتفاظك بالمقدّمات (أو المبدأ والقيمة) والتزامك بها قيِماً مُوجِّهة حافزاً على الوصول مرّة أخرى إلى نتائج من جنسها.
وأمّٰا الاستلاب فهو أن تُضيع المقدّمات بالانحراف عنها والتنكّر لها، وهو ما يجعل النتائج بالضرورة مخالفة لما تواصل ادعاءه من وفاء مرجعي لقيم ومبادئ لم تصُنْها.
والأمثلة متعدّدة في مشهدنا السياسي على مظاهر الاستلاب ونكتفي بمثالين، ممن انتسبوا إلى الثورة:
المثال الأوّل يتعلّق بمن وقف إلى جانب المنظومة القديمة، بعد انتخابات 2011 التأسيسية، واجتهد في تسويقها ومنحها “صفة المعارض” في وقت قياسي في اعتصام الروز ونزع عنها السفساري، وقلب العلاقة معها من “واجب” محاسبتها على قاعدة “التأسيس”، إلى “واقع” منافستها على قاعدة “الانتقال الديمقراطي”. ونكتفي بإسمين بارزين: نجيب الشابي أولا والجبهة ثانيا.
والمثال الثاني يتعلّق بمن “توافق” مع المنظومة القديمة، بعد انتخابات 2014 (حركة النهضة). وقد اعتبر توافقه نتيجة وليس مقدمة، وبرّره بسببين:
قيام معادلة سياسية جديدة فرضها موقف من بادر بشق “الصف الثوري” وتسويق القديم.
نتائج انتخابات 2014 (هذا مصرّح به)، واستهدافه بالاستئصال (ضمني)، والفيتو الذي يلاحقه إقليميا ودوليا، ولا يمنع استعداد صاحب الفيتو لتوظيفه (معطى موضوعي).
غير أنّٰ أداءه السياسي يعصف بهذا التبرير لأنّٰه (الأداء) في مستويات محددة يطوّل المقدّمات (المبادئ الأساسية). ولا نعني من هذا الأداء مسألة “تحصين الثوري” والتخلّي عنها (البعض يعتبرها مقدمة للاستلاب)، ولا نعني فكرة “التوافق”، وهي في تقديرنا مجرّٰد “تسوية”، فالتوافق الحقيقي كان مع إقرار مبدأ المجلس التأسيسي في القصبة 2، انتخابات 23 أكتوبر التأسيسية التاريخية الرائدة (رغم الشروط التي دارت فيها). وحتّى الانخراط.
لحظة الاستلاب، في تقديرنا، كانت مع إقرار قانون المصالحة الاقتصاديّة والتصويت له في البرلمان، وهو القانون الذي أملاه السبسي لحماية ناهبي المال العام من “عصابة السرَّاق”، وضرب مسار العدالة الانتقاليّة في العمق. فلا مصالحة إلاّ على قاعدة قانون العدالة الانتقاليّة، وفي إطار وحيد هو هيئة الحقيقة والكرامة. وكان اقتراح “عفو عام” على رجال النظام القديم من قبل رئيس الحركة، في اللحظة التي أحالت فيها هيئة الحقيقة والكرامة ملفات في الانتهاكات الخطيرة على الدوائر القضائية المتخصّصة.
لا يوجد استلاب أعمق من هذا، ولا يمكن تخيل ضرب لمسار العدالة الانتقاليّة أقوى من هذا، ومن قبل من عرَف الانتهاك الأقصى والأكثر امتدادا في مسيرة مقاومة الاستبداد. فمسار العدالة الانتقاليّة يمثّل إلى جانب فرض سقف عال للحرية، والدستور، والنظام السياسي الجديد (لم تستكمل مؤسساته) منجزاتِ الثورة وأساساتٍ لبناء لم يكتمل.
وسواء تم تبرير هذا من قبل الأنصار بإحراجات السياسة ورهاب “الوجودي”، أو تم تفسيره من قبل الخصوم بطبيعة الجسم السياسي نفسه، فإنّ النتيجة السياسية واحدة: لو خرجت من جلدك ما عرفتك، وقد خرج منه ولن يعرف من قبل القديم ومن قبل من سوّٰق له وقطع الطريق من أجله.
هذان مثالان لاستلاب جهتين تنافستا في صراعهما في الاستقواء بالقديم وسيستامه، ولا عبرة بأن تعتبر إحداهما تسويقها للقديم خوفا من “خصمها الإيديولوجي” أو تعتبر الأخرى “توافقها” معه وتعاطيها مع سيستامه “نتيجة” لتسويق الأولى واجتهادها في عودته، حتى صار برنامجها.
لا مبالغة إذا قلنا أن “حالة الاستلاب” عامّة، وما تدهور حالة البلد وارتهانه واستفحال هشاشته وسياسات الحكومة إلاّ صورة منها.
ولا مبالغة كذلك ولا تشاؤم إذا اعتبرنا أنّٰه لا قوة سياسية في مشهدنا خارج “حالة الاغتراب”. ونعني وجود قلّة قليلة لم تُضِع “المقدّمات” ولكنها أضاعت النتائج، مثلهم جميعا (الأدنى من أهداف الانتفاض المواطني الاجتماعي)، رغم أخذها فرصتها.
الاغتراب/الاستلاب، قد يصلح منظارا نرصد به سلوك الطيف السياسي وتفاعلات المشهد في مرحلة مهمة تعرفها بلادنا.

Exit mobile version