كمال الشارني
عندي واحد من العائلة المقربة، توفي وليس عندي شك أنه سوف يختصم عند الله مع الدولة وأعوانها فيما جرى له: في بداية التسعينات كان عمره اثنين وعشرين عاما وكان يشتغل في ورشة نجارة في أحد الأحياء الراقية في أريانة مقابل أجر رمزي لا يسمح له بالأكل في منتصف النهار،
في الساعة الخامسة ونصف من شهر جانفي 1992 استوقفه البوليسية وهو عائد على قدميه لأنه لا يقدر على ثمن الحافلة وليست له الجرأة للترسكية، بطاقة التعريف؟ حاضر، معدّي العسكر؟ نعم، هات شهادة حسن السيرة العسكرية، حاضر، أطلع في الباقة، (ليس هناك لماذا) وطلع في الباقة، بلا أية تهمة سوى أنه من دوار فلان، عند التاجر فلان ومنه إلى فلان، في دشرة نبر، التي تتبع جغرافيا فقط الوطن من خلال ولاية الكاف، “من الكيف، كا جي بي، توكابري”، احتمى بالصمت حتى وجد نفسه في محتشد الوردية وقتها، حيث لم يخضع لأي تصنيف أمني: لا هو مفتش عنه، ولا هو هارب من الجندية ولا مشتبه به في أي شيء، نحن حاولنا بوسائلنا البدائية أن نستخرجه من جحيم ماكينة الدولة التي بدأت ترحي روحه البدوية البريئة، لكن مبلغ نجاحنا لم يتجاوز أن نرسل له كسكروت وباكو دخان برشوة الحارس، بعد خمسة أيام، حين انتهوا من ترتيب فوضى المحتشد انتبهوا إلى أنه لا بد من حل له حتى إن لم تكن له تهمة، قرروا أن يعيدوه قسرا إلى “الوطن”، أي الدشرة، الغريب أن أغلب الأعوان جاؤوا إلى تونس الحاضرة مثله تماما، كلهم من المداشر والقرى والدواوير، لكنهم تعلموا كلهم، حين ينهون التدريب ويكتشفون لذة السلطة كيف يسخرون منه، في أفضل الحالات، في الليل، ثمة من يتعاطف معه بقارورة ماء أو سيقارو. “باهي، سيبوني سوف أعود وحدي، من تلقاء نفسي مقتنعا هذه المرة”، لا، كيف نطلق سراحك بعد أن صنعنا لك ملفا؟ انتظر في سجن المحتشد يومين آخرين لكن دون أن يجد الأعوان سيارة تذهب إلى الدشرة، أخيرا، تحت تأثير الشفقة وليس الحقوق ولا أي وهم آخر، قبلوا بالتنازل تحت إلحاحنا أن يرسلونه إلى جندوبة بوعد أن يتولى حرس المنطقة نقله إلى الدشرة، وهو ما تم، لكن الثلج نزل في جندوبة ومطر كثير انقطعت معه الطرق، واحتار حرس جندوبة في تقدير الموقف وأخيرا قرروا المغامرة بإطلاق سراحه بعد أن أقسم لهم على روح أمه أنه لن يعود إلى تونس، وبالفعل، فقد نجح رغم الثلج في الوصول إلى الدشرة ومنها إلى الدوار، ولم يعد إلى العاصمة أبدا، أبدا، حتى مات، إنما، لم يكن وحده ضحية مثل ذلك الوضع.