"يا غنوشي يا سفاح يا قتال الأرواح"!
عادل بن عبد الله
منذ انتهاء التوافق بين رئيس الجمهورية وبين حركة النهضة، شهدت تونس عودة لشعار مركزي من شعارات اليسار الجبهوي والنقابي. كان ميلاد هذا الشعار ناتجا أساسا عن عمليتي الاغتيال السياسي التي طالت المرحومين الحاج محمد براهمي وشكري بلعيد. ورغم كثرة “المنتفعين” من تلكما العمليتين في الداخل والخارج (المنظومة القديمة واليسار الاستئصالي مع من يكفلهم من القوى الإقليمية والدولية المعادية للثورات العربية)، ورغم أن حركة النهضة (في حكومة الترويكا) كانت أكبر خاسر من الاغتيال السياسي، حرص اليسار السياسي والنقابي (بدعم من المنظومة القديمة وأجهزتها الدعائية) على حصر الإدانة في حركة النهضة، من خلال ما سُمّي بـ”التنظيم السري”.
وسنحاول في هذا المقال أن نحلل (انطلاقا من الشعار الوارد في العنوان) أهم الوظائف التي أداها الاغتيال السياسي، خاصة ذلك المتعلق بتكريس التحالف الاستراتيجي (لا التكتيكي) بين التجمعيين واليساريين الاستئصاليين؛ باعتبارهم الواجهة الأساسية التي حكمت من حلالها النواة الصلبة للمنظومة القديمة قبل الثورة، وباعتبارهم الأداة الأساسية التي ضمنت عودة تلك المنظومة لمركز السلطة. كما سنحاول أن نثبت (من باب الجدل أو تبكيت الخصم) أن منطق “المصادرة على المطلوب” الذي تعتمده هيئة الدفاع عن المرحومين بلعيد والبراهمي؛ يمكن أن يؤدّيَ إلى نتائج مختلفة، بل متناقضة.
يعلم أي مبتدئ في العلوم القانونية أنّ “الأصل في الانسان البراءة”، أي أنّ القاعدة هي البراءة الأصلية لأي إنسان مهما كانت منظومته السلوكية ونسقه الاعتقادي، وتظل تلك البراءة ثابتة حتى يأتيَ ما ينقضها من شبهات تسمح بالبدء في إجراءات تحقيقية وقضائية تتسم بالنزاهة والشفافية. كما يعلم أي مبتدئ في العلوم القانونية أن هناك فارقا بين “الشبهة” و”الاتهام” و”التجريم”، ولذلك فإن صفة “المجرم” تكون لغوا ما لم يتم الانتهاء من إجراءات التقاضي العادلة وصدور حكم بات لا يقبل الاستئناف أو الطعن، ولكنّ هذه البديهيات تصبح أثرا بعد عين حالما يحتكم أي طرف إلى مغالطة “المصادرة على المطلوب”. وتُرتكب هذه المغالطة (كما جاء في أحد تعريفاتها) عندما “يقوم شخص بافتراض مسبق لما يحاول أن يثبته، أو عندما يعتمد فرض مقدمة الحجة على نتيجتها”. ولو أردنا تنزيل هذه القاعدة النظرية على الخطاب “الشيو- تجمعي” في نسخته الأحدث لقلنا:” النهضة حركة إرهابية تمتلك تنظيما سريا هو من اغتيال المرحومين البراهمي وبلعيد”. ولا يخفى ما في هذا المنطق من “مصادرات”، ومن مواقف أيديولوجية راسخة تجد أصلها في خطاب المخلوع ذاته.
فالمسكوت عنه في اتهام حركة النهضة بـ”الإرهاب” وحصر هذه الصفة فيها؛ يعني “تبييض” المنظومة القديمة وما اقترفته من جرائم في حق النهضويين (من قتل وتعذيب وتهجير قسري)، فكأن ما قام به المخلوع ونظامه هو “دفاع شرعي”، وكأنّ ما طال النهضويين هو عقوبة مستحقة. كما يعني اتهام حركة النهضة بـ”الإرهاب” حصرها في “صورة نمطية” تمنع إدراجها، من جهة أولى، في الحقل السياسي القانوني بصورة طبيعية وثابتة، وتساهم، من جهة ثانية، في تذويب الفروق الأيديولوجية والخلافات التاريخية بين مكوّنات ما يُسمّى بـ”العائلة الديمقراطية”، أو لنقل تذويب الخلافات بين ورثة التجمع ومعارضته الكرتونية والراديكالية. أمّا المصادرة على المطلوب في قضية التنظيم السري، فهي تهدف في الحد الأدنى إلى إضعاف حركة النهضة انتخابيا وإحراجها إقليميا ودوليا، وتهدف في الحد الأقصى إلى حل هذه الحركة وإحياء السيناريو الانقلابي الدموي للمخلوع ابن علي.
عندما اغتِيل المرحومان البراهمي وبلعيد، سارعت الجبهة الشعبية (مسنودة بنداء تونس وباقي القوى العلمانية) إلى تحميل حركة النهضة وحكومة الترويكا المسؤولية عن ذلك. وقد كان من الممكن تفهم هذا الأمر لو انحصرت القضية في المشؤولية السياسية؛ لأنها كانت مسؤولية ثابتة. فالترويكا (بقيادة حركة النهضة) كانت مسؤولة سياسيا عن عمليتي الاغتيال، ولكنها لم تكن المسؤول الأوحد في ظل استقطاب أيديولوجي حاد، وفي ظل سياسات استضعاف ممنهج للدولة؛ كانت وراءها أطراف كثيرة، ليس أقلها تأثيرا اليسار بجناحيه السياسي والنقابي. ولكن الاتهامات تجاوزت المستوى السياسي، لتتخذ المسألة بعدا قضائيا يهدف إلى تحميل النهضة مسؤولية جزائية في عمليتي الاغتيال. وبالطبع، فإن من حق رفاق المرحومين أن يتهموا من شاؤوا بما شاؤوا، ولكنّ من حقنا نحن أن نفهم المنطق الذي يحكم هذا السلوك السياسي، وأن نقف على اللامفكر فيه عندهم، أو المسكوت عنه عجزا أو اختيارا.
لسنا هنا في وارد التشكيك في نوايا الجبهة الشعبية ولا في مهنية هيئة الدفاع عن الشهيدين، ولكن من حقنا أن نطرح جملة من الأسئلة المقموعة والمهمشة في خطاب هاتين الجهتين. فمن المعلوم أنّ من يبحث عن الحقيقة لا يستثني أية فرضية مهما كانت مستبعدة، ولكنّ المراقب للفكر الذي أنتج الشعار الوارد في العنوان يلاحظ أنّ “أولياء دم” الشهيدين أصرّوا منذ البدء على حصر التهمة (لا الشبهة) في حركة النهضة دون سواها. وهو حصر قد يطعن في جدية بحث تلك الأطراف عن الحقيقة كما هي، لا كما يريدونها أن تكون. فالمنطق السليم يقول إنّ اغتيال المرحومين البراهمي وبلعيد كان يدعو إلى طرح سؤالين مركزيين: من المستفيد من الاغتيال السياسي، وهل لحركة النهضة التي كانت تقود حكومة الترويكا مصلحة في ذلك؟
لمّا كانت “الحقيقة” عند من يبحث عن مكسب سياسي وعن تصريف لعداء أيديولوجي راسخ؛ ليست مطلوبة لذاتها، استبعد “أولياء دم” الشهيدين كل الفرضيات التي من الممكن أن تؤدّيً إلى نتائج غير مرغوبة. فلا أحد منهم تساءل عن العلاقة بين الاغتيالين وبين مشروع عزل التجمعيين، ولا أحد منهم تساءل عن مصلحة بعض القوى الإقليمية في إسقاط أول تجربة ديمقراطية في تونس، وعن دورها في اختراق المجاميع الإرهابية، ولا أحد امتلك الجرأة ليشتبه في المنظومة القديمة أو المخابرات الأجنية (فما بالك باتهامها). من أجل ذلك كله، كانت النهضة هي الأضحية النموذجية التي يحتاجها “الديمقراطيون” للانقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي، ولترسيخ تحالفاتهم وحماية مصالحهم المادية والرمزية، ولتدجين النهضة إذا تعذر اجتثاثها.
إنّ الشعار الذي يحصر قتل الأرواح في النهضة ورئيسها هو شعار ضروري في استدامة التحالف بين كل الأطراف؛ التي ما زالت ترفض الاعتراف بحدوث “انكسار بنيوي” حقيقي في الحقل السياسي التونسي منذ 14 كانون الثاني/ يناير 2011، أي إن هذا الشعار هو خيار استراتيجي “جامع” لكل القوى التي ما زالت تحنّ إلى 13 كانون الثاني/ يناير 2011، أو حتى إلى 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987. فصياغة الشعار لم تكن اعتباطية، بل كانت عملية دقيقة تهدف إلى القيام بدورين متكاملين: دور الكشف (كشف أنّ النهضة ما زالت حركة “إرهابية” كما وصفها المخلوع ونظامه، وهي بالتالي لا تستحق العمل السياسي القانوني) ودور الحجب أو الإخفاء(حجب تاريخ “إرهاب الدولة” وإخفاء دور التجمعيين والكثير من اليساريين في آلتي القمع الأيديولوجية والأمنية زمن المخلوع، وما تسببوا به من جرائم قتل وتعذيب وتفقير وإذلال ارتهان للمركز الغربي، خاصة فرنسا).
ختاما، يمكننا أن نقول إن شعار “يا غنوشي يا سفاح، يا قتّال الأرواح” هو اختزال لمجمل ارتكاسات مسار الانتقال الديمقراطي، وهو ارتكاس لا يشمل صنّاع الشّعار والمروّجين له فحسب، بل يشمل أيضا موضوعه أو ضحيته. فهذا الشعار يخفي “أزمة” بنيوية يشترك فيه الخطابان اليساري والنهضوي على حد سواء، تلك الأزمة التي استغلها التجمعيون (ومن ورائهم النواة الصلبة للمنظومة القديمة) وجعلوها مدخلا ملكيا للتلاعب بكل الأيديولوجيات والسرديات الكبرى تمهيدا للعودة إلى مركز السلطة والبقاء فيه.
إن العلاقة بين النهضويين واليساريين بعد الثورة تعكس عجزا عن صياغة شعارات مشتركة، وذلك بحكم غياب مشروع “الكتلة التاريخية” التي لا تحتاج إلى الاستقواء بورثة المنظومة القديمة (لعب دور الطابور الخامس) ولا إلى التوافق معهم (لعب دور شاهد الزور)، بل تحتاج فقط إلى الاجتماع حول مشروع مواطني حقيقي يجد الجميع أنفسهم فيه بصرف النظر عن أصولهم الأيديولوجية. وبالطبع، فإن قيام كتلة تاريخية هو أمر متعذر ما لم يقم اليساريون والنهضويون بنقد ذاتي وبمراجعات جذرية لأدائهم السياسي قبل الثورة وبعدها، كما أنه أمر مستبعد في ظل هيمنة الصراعات الهوياتية و”سياسة المناولة” التي لن يكون المستفيد الأساسي منها (مهما كانت المآلات) إلا أحد أجنحة المنظومة القديمة ومن يقف خلفه في عالم المال والأعمال المشبوه.
“عربي21”