المنجي السعيدي
رغْم كلّ التّحوّلات ومراكمة التّجارب، ورغْم نِسَب التّعلّم المرْتفِعةِ، ورغْم الإدّعاءاتِ بإحْرازِ تطوّر في مسْتوى الإسْتيعاب لسننِ التّاريخ ومقتضَياتِ التّحوّلات الإجتماعيّة، فقدْ ظلّ العقْل النّخْبَوي التّونسي لدى شرائح واسِعة من هواة السّياسة وحُماة معابِد الثّوْرة ورُعاتها “والدّيمقراطَوِيُّون” ومُحْتكِرُو الوطنيّة وأوْطادِها (أعلم أنّها تُكْتبُ بالتّاء) يعِيشون حالةً من الغِيّاب التّارِيخي والضَيَاعِ فِي الزّمان والمكان تجْعلُهم يحاولون دُون كلَلٍ إسْقاط دوافِعَ أحْداثٍ مُمْتدّة في الماضي على حاضرٍ مخْتلِفٍ نفْسِيًّا وَوَاقِعيًّا.
ولِذلك لم تخْلُ السّاحة وطِيلة سنواتٍ منْ زرْعِ الألْغَامٍ قصْدَ تفْجِيرِ الواقع الإجْتِماعِي وتِكْرَارِ الثّورة ثانِيةً أو بلفْظٍ أدَقّ نشْرُ الفوْضى التي تُسمّى خلّاقة (سَاعَاتْ). وهو ما سعَى إليْه الحَالمون بجانفي سَاخِنٍ، مسْتهلِّين عمليّة التّسْخِين بِبُوعزيزي ثانٍ (الصّحُفِي المغْدُور) بالقصرين، ثمّ ولمّا لمْ تتَوفَّرِ الفُرْصة على مقوّمات النّجاح (القَابليّة الشّعبيّةُ للتّفاعُلِ ومصْداقيّة الحدثِ وبراءتُه) حدّدوا محطّة أخرى لاسْتنْسَاخ أحداث جانفِي 1978 يوم 17 جانفي 2019 وبعْد ثورة دوّخت العالم بأسْرِه فِي غِيَابٍ تامٍّ لأيِّ تَجانُسِ بيْن التّارِيخيْن أو بيْنَ الدّوافعِ المؤجِّجَة للحدثيْن. وقدْ كان تخْوِيف رئيس الجمْهوريّة منْ الإضْرابِ الذِي أصرّ عليْه شِقٌّ وَاهِم في إتّحاد الشّغْلِ ينْدرِج في هذا السّياقِ من اللّاوعْي بسنَنِ التّاريخ في الذاتِ والمجْتمع والزّمن (خاف من الدّماء والسّجون والفوضى).
وبمجرّد الرّجوع إلى حيْثيّات أحداث جانفي 78 التي تنزّلَتْ في فتْرة الدّولة الكِلْيانيّة وغطرَسة الحاكِمِ المسْتبِدّ، نتبيّن أنّ انتِشارِ الفوضى وسقُوط الشّهداء وانْهِيار السّلْم الإجْتِماعيّة وقْتَها كانت بِسَبَبِ قوانِين منْعِ التّظاهُرِ وتجْرِيم التّعْبِير واحْتِكار السّلطة للشّارِع والإسْتِفْراد بالرّأي والحقِيقة، مِمّا أحدث موَاجهاتٍ ذهب ضَحِيَّتها مئاتُ الشّهداء وسالتْ فِيها أنْهارٌ من الدِّماء. فهلْ منَ المُمْكِن إعادة هذا السّيناريو في بلدٍ غدَا فِيه حقّ الإضْرابِ والتّعْبِير والتّظاهُرِ منْ مُقوِّمات الحيَاة اليوْمِيّة للتوانْسة ؟ وفِي بلَدٍ حقَّقَتْ فِيه الثّورة أقْدس مقوّمات الوجود الإنسانِيّ: الحرّيَةُ.
الذِين راهنُوا يوم 16 جانْفِي سوَاءً في مجلِس النّواب أو في مواخِير المؤامرات السّياسيّة فِي الدّاخِلِ والخارجِ كانوا أغْبى منْ “هِبَنّقة”. ولِذلِك تمّ الإضْراب وجابت المسيرات الشّوارِع في مشْهدٍ حضارِيٍّ لا ترْتقِي إليْه لا العُقول المتمدْرِسة فِي غَياهِبِ النّظام البورقِيبي المسْتبد ولا العقُول التِي لمْ تسْتطِع إعادة تشْكِيلِ وعْيِها بما يسْتلْزِمه منْ مقوِّماتِ الواقعيّة والتّحالِيل النّفْسيّة وتطوّرات الشّارِع التّونسيّ ووعْيِ المواطِن الذي لنْ يفرّط في عصْفُورٍ فِي اليدِ منْ أجل عُشٍّ قدْ يكُونُ فارِغًا فِي أعلى شجرة ٍ.
فهل يكون 17 جانْفِي محطّةً للتّخلّي عن هِوايَة اسْتنْسَاخ التّارِيخ وإعادة النّظرِ في مقوّمات الوعْيِ عند المتهافِتِين على الثوْريّة والمهرْوِلِين للمُتاجرة باسْتِقْرارِ الوطن والحالِمِين الذِين غالطتهم المرْآة كما أوْهَمت القطَّ أنّه أسدٌ وخدعَت الفأْر بأنْ عكَستْه على سطْحِها فِيلًا؟.
(المنجِي السّعِيدي . طبرقة)