سفيان العلوي
مرّ يوم الإضراب العام لـ 17 جانفي 2019 كما أراده منظموه هادئا إلا من عنف الخطاب واستدعاء الاشتباك وكما أرادته الحكومة خاليا من العنف وعنوانا لوجه آخر لديمقراطية برتقالية ومخملية الملامح. كان هناك قرار بالإضراب لا يعدم حججه ومشروعيته من معلن الخطاب وهو تعديل المقدرة الشرائية للموظفين في الأرض. ومهما كان العرض الحكومي كانت هناك رغبة صريحة في المضي إلى الإضراب. وقد قال رئيس الحكومة في خطاب سبق يوم الإضراب “لم نختر الطريق السهل بالقبول بالزيادات مهما كانت وتصدير تداعيات ذلك إلى من يأتي بعدنا” هو يدرك أو لنقل أنه يأمل أنه هو من سيأتي بعده أي سيخلف نفسه إذا ما قدر للإنتخابات القادمة أن تتم في آجالها وبنفس التوازنات السياسية الحالية. يبدو أن التقدير السياسي سار في اتجاه أن الإضراب العام له سقوف يمكن إدارتها بالخفض والرفع كلما أمكن دون دفع الأمور نحو فوضى عارمة أو استنساخ حدث 26 جانفي 1978.
لم يخل التجمع العام من شعارات تطالب بتحسين المقدرة الشرائية كما تضمّن شعارات سياسية فيها ما يسهل نسبته إلى أحزاب معينة وفيها ما يذهب إلى حد المطالبة بـ “إسقاط النظام”. وفيها ما يشير إلى رغبة ما في تحديد مربعات الحركة للإتحاد وما يقابلها من إظهار القوة على الأرض واستباق ما سماه الأمين العام “تقليم الأظافر”. الشعارات إذا توحي بوجود صفين أو طرفين للصراع السياسي المعلن من مع الإتحاد ومن مع الحكومة. في الواقع، كل متابع للمشهد السياسي ومنذ زمن يمكن له أن يتبين دون عناء كبير أن المشهد السياسي أعقد من ذلك بكثير.
قبل الثورة وحتى بعدها كان هناك تقدير سياسي أن هناك قوتان في الشارع التونسي في مواجهة السيستام بما هو قوى إجتماعية وأمنية ومالية ودبلوماسية وإدارية تدير الحكم وتتحكم في توزيع الثروة. هاتان القوتان هما تحديدا النهضة والإتحاد ودون الخوض في التفاصيل لا شيء يحيل على التعارض المطلق بين القوتين ولا شيء ينفي خطوط التماس والتداخل بينهما. لم يتح للنهضة أن يكون لها نفس الحجم والحضور مثل اليسار والدساترة في المواقع المتقدمة في قيادة الإتحاد نظرا للمحنة التي طالتها على مدى أكثر من عشريتين وهناك خيبة عامة لدى جمهور النهضة في سكوت الإتحاد تماما على الإنتهاكات التي طالتها وليس أقلها الطرد التعسفي وغيره. حتى هيئة 18 أكتوبر لم يكن للإتحاد فيها حضور معلن. وبعد الثورة كان لقواعد النهضة والمتعاطفين معها حضور يعكس إمتدادها الجماهيري لكن الفترة كانت قصيرة ليكون لها ما لغيرها ومنافسيها داخل الهياكل الوسطى والعليا في المنظمة الشغيلة. لا معنى للحديث عن اختراق المنظمة هي أصلا خريطة واسعة للإختراق السياسي من الجميع وخاصة ممن اختبر وزنه الإنتخابي في الإستحقاقات السياسية وأدرك أحجامه.
أتاحت الثورة أولا ثم الإنتخابات ثانيا للنهضة طرق باب الحكم وبعد خوض التجربة تأكد لها أن السيستام هو أعقد وأكثر إمتدادا وعمقا من رئيس وحزب حاكم. وأدرك السيستام أو هكذا أراد أن تحييد النهضة يمكن أن يضعف الشارع ويسكته تمهيدا لاستعادة السيطرة وإعادة إنتاج الخطاب والتخفف من كوابح الإستبداد والمافيا دون أن يصل الأمر إلى تغيير جوهري للمنوال. ثم يأتي الدور لاحقا على الإتحاد باستيعابه أو تحجيم دوره. لكن السلوك المخاتل للإدارة العميقة ولمنظمة الأعراف وضغط الشارع والتحالف الهجين بين اليمين واليسار وصعوده إلى السطح أنهى التجربة الأولى للنهضة في الحكم خاصة بعد الإغتيالات المريبة في 2013.
جاءت إنتخابات 2014 بمعادلات جديدة وأعادت إحلال القديم في السيستام بشرعية إنتخابية يطول القول في التذكير بظروفها. فرضت المرحلة السابقة تغييرا دستوريا كان ضمانة لعدم عودة كاملة للقديم واستعاد السيستام إنسجامه الاجتماعي والسياسي نسبيا لكنه فقد آلية الحكم الدستورية وما برمج من قانون إنتخابي لتحجيم أي انتصار ممكن للنهضة اكتوى بناره النداء الذي وجد نفسه مجبرا على الحكم ضمن إئتلاف حكومي تتصدره النهضة ولم يجد معه مما أعتبر العائلة الحداثية التقدمية الديمقراطية الوطنية من هو قادر على تعديل التوازن الجديد.
ظل الإتحاد منتشيا بجائزة نوبل متوجسا من أي مشاركة في الحكم بشكل مباشر رغم أن كل وزراء الشؤون الإجتماعية والمعنيين بالمفاوضات الإجتماعية من قياداته القديمة. ولم يكن يخفى خطاب الإئتلاف الحاكم الراغب في تحديد مربع الحركة للإتحاد و”عودته إلى ثكناته” كما قال ذلك برهان بسيس الناطق باسم النداء سابقا. لم يكن ذلك سوى تذكير برغبة السيستام في إنهاء لعبة الشارع وإدارة الصراع من خلال المؤسسات وهو يدري أن الإتحاد يتحكم بجانب هام من مجريات السياسة عبر الشارع والمؤسسات معا. لكن لا أحد من أطراف الحكم كان يرغب في خوض الصراع المفتوح مع الخيمة.
لم يلبث النداء الذي أريد له أن يكون قوة التوازن في مواجهة النهضة والذي انتهى شريكا لها في الحكم لم يلبث أن أخذ طريقه إلى التفكك وحرب الشقوق. لم تكن النهضة فرحة بانهيار النداء لاستفادتها من التوازن القائم وضعف الحماس للعودة بقوة إلى الحكم أمام المطلبية العالية وعجز الخزينة وغياب إستعداد ومناخ للشراكة مع منافسيها. في الأثناء كانت المصاعب الاقتصادية تتفاقم ومواجهتها تذهب إلى مزيد من المديونية وهو ما يغذي الإحتجاج ويؤكد مشروعية المطلبية الإجتماعية ويمنح الإتحاد صفة الضامن للتوازنات الإجتماعية والناطق باسم شرائح واسعة. ظل السيستام متماسكا رغم كل ذلك إلى أن ظهر الخلاف حول إزاحة الشاهد رئيس الحكومة من داخل النداء وبانخراط مباشر للإتحاد في الصراع. لم يقبل الشاهد بمصير الحبيب الصيد واستطاع المناورة مع شقوق الحزب ومع النهضة ومع الإتحاد وصارت طموحاته السياسية تتجاوز مجرد استكمال العهدة النيابية إلى ما بعدها. راهن على البقاء وكان له ذلك وراهن على سحب الباتيندة بأكملها من غريمه وأبيه وتعذر عليه ذلك لكنه يتجه إلى تأسيس حزب خاص به. إنقسم السيستام لأول مرة على نفسه ووضع بعضا من بيضه في سلة الباجي وبعض آخر في سلة الشاهد وربما البعض الآخر في سلة النهضة. السيستام منقسم بين النداء 1 والنداء 2 إلى أن تضع الحرب أوزارها بالإنتخاب أو بغيره. وإضراب الإتحاد هو في قلب هذه الأزمة تزامنا أو توظيفا أو إستفادة أو غير ذلك من تقديرات الأمور التي لا تدعي الموضوعية ولا يمكن لها ذلك وإن حرصت.
يحرص الإتحاد على إظهار القوة ويحرص العاضّون بالنواذج على أوتاد خيمته على تحويله إلى قوة التوازن السياسي المنشودة أمام إنهيار النداء في مواجهة النهضة التي لا ترى نفسها معنية بمواجهة معه رغم رعونة بعض المتعاطفين معها وانفعاليتهم وضعف الحس السياسي عندهم. في الأثناء تشارك قواعد واسعة من منظوريه في التحركات أملا في تحسين أوضاعها الإجتماعية وترى نفسها خارج الرهانات السياسية للأحزاب التي تستغل مطلبها للمغالبة وتعديل التوازنات وتنزعج من الإنحراف بالتحركات نحو مجرد المناكفة السياسية.