زيارة و مرارة

فتحي الشوك
كان جامعا، جامعة ومنارة، ثاني أقدم جامع في المغرب العربي بعد جامع عقبة ابن نافع، تأسّس سنة 698 م (79هـ) بأمر من حسّان ابن النعمان ليمزج بين دوره كمكان للعبادة إلى منارة للعلم والتعليم وليكون أوّل جامعة يعرفها العالم، من هنا مرّ علي ابن زياد وأسد ابن الفرات والإمام سحنون وابن عرفة والعلّامة ابن خلدون والشّيخ التّيجاني والعارف بالله أبو الحسن الشّاذلي والشيخ إبراهيم الرّياحي والإصلاحي سالم بوحاجب والعلّامتان محمّد الطّاهر بن عاشور ومحمّد الخضر حسين والشّيخ محمّد العزيز جعيط والشيخ عبد العزيز الثعالبي والشاعر الفذّ أبو القاسم الشابي والإصلاحي الجزائري ابن باديس وحتّى الرّئيس الجزائري السابق هواري بومدين وغيرهم كثيرون.
كان صدّ الدّفاع الأوّل عن الهوية العربية الإسلامية، مؤسّسا لها ومرسّخا لها ومدافعا عنها ممّا جعل المقيم الفرنسي يعتبر أنّه مصدر المقاومة الأساسي وقد أوجز شكيب أرسلان بالتعبير عن دوره بقوله أنّه أكبر حصن للغة العربية والشريعة الإسلامية في القرون الأخيرة.
صمد لقرون أمام المستعمر الأجنبي من إسبان ثمّ فرنسيين وأمكن له بأن يقوم بدوره الدّيني والتعليمي والاجتماعي والوطني ليسقط أخيرا بأيدي مستعمر داخلي فرّخه الخارجي ليهمّش ويهجّر ويفقد إشعاعه ودوره كزيتونة لا شرقية ولا غربية تشعّ بالأنوار وتنشر الفكر الوسطي المعتدل محوّلة إيّاه إلى مجرّد معلم للطّقوس البالية الموسمية في عملية تغريب ممنهجة وتصادم مع السيرورة التاريخية.
كان جامعا، جامعة ومنارة.. زيتونة لا ينضب زيتها. وخليّة نحل تسكب عسلا وبيت عامر لا تخفت أنواره، قبلة لأجلها تجهّز الرّحال ومركز يجود بعلمه لطلّابه وزوّاره.. كان شمسا تشعّ شرقا وغربا فكيف تحوّل إلى كويكب وتغيّر مداره وكيف هجّر، همّش وتحوّل مساره، أصابه العقم وغابت ثماره.. زيارة ويا ليتها من زيارة.. كانت وجعا ومرارة..

جامع الزيتونة – مدينة تونس

Exit mobile version