علي المسعودي
كان رجلا لا يثير أيَّ فضول: عينان مُجْهدتان خلف نظّارات سميكة، شارب كثٌّ عريض، وسيجارة لا تغادر شفتين داكنتين، مثل مدخنة تعلو هضبة على وجه الأفق. إنها ملامح موظف قضّى على الأقل عشرين عاما وراء مكتب فوقه دفتر قديم. وتكاد تقسم في كلّ مرة، أنك صادفت شبيها له في مكان ما.
وكان رجلا لا يكاد يُلاحظ وجوده في الحيّ. فبين دوامه اليومي، وتردده على المقهى المجاور في كل المساءات القائظة والممطرة، وأَوْبتِه إلى المنزل في الساعة الثامنة بالضبط، لا تنقص أو تزيد، تذهب حياته الرتيبة كما تذهب جميع الأشياء على جانب الطريق، نألفها حتى ننسى وجودها، ثم تختفي فلا ننتبه لغيابها.
ولكن الوجه المألوف غالبا ما يثير دهشتنا عندما يرفض مسايرة المألوف.
حدث ذلك على الأرجح في أوّل أيام الربيع، عندما بدأت تتفتّح أزهار شقائق النعمان، وكان قد بلغ عامه الأربعين… كان ثمّة أصص من أزهار البنفسج تملأ شرفات البيت، وكانت تبعث رائحة أخّاذة اعتاد عليها زوّار المنزل وحتى السابلة في الطريق.. جمعها كلّها، ذاك الصباح، بعناية موظف حريص، ثم رماها دفعة واحدة من احدى الشرفات.. هرعت زوجته بعد ذلك، وأخذت تنظر بعين الفقْد إلى كل الأماكن. لم تعثر على أصّ واحد في مكانه. وعنما انكشف لها ما حدث، لم تستطع كتْم صراخها وهى تتساءل عمن فعل هذا بأصصها.. ولكنها لم تظفر بغير جواب رجل يدخّن سيجارة في غير اهتمام: ما الفائدة ؟
في اليوم الموالي، عاد الموظف إلى المنزل على غير المعتاد. وفي هدوء عجيب أخبر زوجته أنه طلب اليوم تقاعده المبكر وحصل عليه، وأنه قدّر أن معاشه يكفيه. سألته في دهشة عمّا دعاه إلى هذا الطلب. فلم يزد على أن قال: وما الفائدة ؟ ليس هناك سبب !… لم ترغب في طرح مزيد من الأسئلة ولكنها تمتمت: جنّ الرجل بلا شكّ !..
وكان يوم الأُصُصِ آخر عهد له بمجلسه في مقهى الحيّ، افتقده أصدقاؤه، فأخذوا يطرقون بابه كل مساء. غير أنه ظلّ يتعلّل لهم بألف سبب، حتى ملّوا مضايقته وتركوه لشأنه في آخر الأمر. وفي كل مرّة كان يصْفق الباب وراءهم وهو يخاطب نفسه: ما الفائدة ؟!.
وفي ليلة من نفس ذلك الشهر، راودته زوجته عن نفسها بعد أن خاب منه الرجاء.. وما كادت تقضى وطرها حتى قفز فجأة كمن تذكّر أمرا لا يحتمل أيّ ابطاء !.. تناول علبة سجائره، أشعل واحدة ثم انطلق إلى الشرفة غير آبه بأيّ شيء حواليه.. لاحقته زوجته من شدة الغيظ في غير احتشام. وما إن سألته عمّا دهاه حتى دفع إليها بردّه القاتل: وما الفائدة ؟.. كانت ستصفعه بكل جهدها بلا شك، ولكنّ يدها لم تطاوعها فعادت مسلّمة، من حيث أتت.
كانت امرأة تؤمن بقضاء الله، مِيزتها الطاعة والتسليم. فقبلت بهذا التحوّل الذي طرأ على حال زوجها فجأة، وقبلت اعتكافه بالبيت في أغلب الأوقات، وإشغال نفسه بأشياء طفولية تثير الهمّ والقلق.. ولكن الخبر الذي تناهى إلى سمعها من أهل الحيّ أرعبها.. لقد حاول زوجها أن يدفع نفسه تحت عجلات قطار سريع لولا أن يدا قريبة حالت دون ذلك.. وعندما سأله الناس عمّا إذا كان يريد الانتحار، أجاب في ثقة مريبة: لا، ولكن أردت أن أعرف كيف يتمزّق جسد تحت ضغط كتلة هائلة من حديد !.
عندها فقط أدركت أن خطبا ما قد حلّ بالرجل.
وأما الجيران فقد استبدلوا منذ ذلك الوقت صفة الموظف الملازمة لإسمه بصفة المعتوه..
والحقّ أن الأمر لم يكن بهذا القدر من السوء. فمع الأيام أخذ يتهيّأ للزوجة ما لا يقبله عقل. لقد بدا لها أن زوجها يشبّ عوض أن يشيب. وأقسمت لجارتها مرّة أن شعره الذي وخطه الشيب قد عاد فاحما، لكأنه طرح عقدا كاملا من أعوامه الأربعين. أما وجهه فقد غادر مسْحة الضيق والتبرّم التي عهدتها فيه منذ عشرين عاما أو يزيد.. حتى أنها تجرأت وراودته عن نفسها مرة أخرى، وقد حذرته من مغبّة افشال جهودها، وكان لها أفضل مما تريد..
لقد أصبح الآن رجلا يثير كثيرا من الفضول..