مقالات

هل صحيح أن الدساتير هي المرجعية الأسمى ؟

أبو يعرب المرزوقي
تنبيه:
نشر في الفجر نيوز يوم 28 – 03 – 2013
وأعيد نشره بإذن من الوالد تذكيرا بالمبدأ الذي ذكره في مداخلته الاخيرة حول علوم المرجعية الروحية (الدين) والعقلية (الفلسفة) على الدستور بوصفه مرجعية قانونية وخلقية لا تستمد شرعيتها من إرادة جيل من أجيال الأمة بل وحده بل هي تستمده من وعيها بإرادة أجيالها المتولية فهما لمرجعياتها الروحية والعقلية وتكيفا مع ظرفياتها التاريخية. وقد سبق أن عرض هذا المبدأ في هذه المحاولة لما احتدمت معركة المرجعيات خلال كتابة الدستور التونسي الثاني.
تمهيد:
كثر اللغط حول ديباجة الدستور.
وسمعت كلاما حول ما ينبغي أن تكون عليه لم أصدق أنه يبدر ممن يدعون في الدستوريات علما لدنيا.
ولست من المعجبين بصوغ الديباجة لكني أكثر تعجبا من الدفاع عنه.
فرب عذر أقبح من ذنب: لا يمكن أن نبرر موقفا بمجرد القياس على ما يوجد عند الغير. وما أريد الكلام عليه ليس متعلقا بمضمون الديباجة بل بمنزلة المرجعيات من الدستور ومنزلة الدستور منها.
وإدلاءً بدلوي، أقدم للقراء هذه المحاولة حتى وإن كان الدستور قد تجاوز مرحلة التفكير في مقوماته التي سبق أن كتبت فيها فصلين قبل الانتخابات وحتى وإن كنت قد استبعدت عن المشاركة المباشرة في الصوغ الحالي بقصد أو بغير قصد من ذوي اليد الطولى الله وحده يعلم- أقدمها لمن كان منهم ذا صبر وعزم على التدبر ومؤمنا بأن أمة سن دخولها إلى التاريخ الكوني ثورة كونية تجاوز عمرها الخمسة عشر قرنا لا يمكنها أن تكون مترددة في خياراتها القيمية وفي أسلوب ترجمتها الدستورية فضلا عن أن تتركه لمن يغفل عن هذه المقومات. فلعل ذلك يساعد في جعل الحوار يرتقي إلى البحث في أساسيات بناء الجمهورية الثانية بعيدا عن البيزنطيات السخيفة التي نسمعها من طرفي النزاع كليهما.
ومن البديهي أن الأمم التي تضع نخبها قضايا زائفة لن تحصل على حلول معقولة خاصة إذا انتدبت لعلاجها غير المؤهلين لذلك. ولا عجب عندئذ أن تحصل المصائب التي نرى ليس في الصوغ الدستوري المرتجل فسحب بل وكذلك في الدفاع عنه بما يزيد تأسيسه وهاء. ولله جل وعلا في خلقه شؤون.
تعريف الدستور بالرسم
لأن مجال التواصل السريع لا يمكن من التعريف بالحد الجامع المانع.
فالدستور صوغ صريح لقواعد وجود الجماعة المشترك.
وهو متعين في ممارسة عرفية لم تنتقل إلى الصوغ الصريح في نصوص تقبلها الجماعة مرجعا تحتكم إليه في تحديد شؤونها.
وبهذا المعنى فلا يخلو مجتمع بشري منه. لكن التقدم الإنساني نقله من الممارسة العرفية إلى الصياغة النصية: وإذن فهو جملة القواعد الصريحة التي تمكن من ترجمة إرادة الجماعة وخيارتها القيمية ترجمة تحدد طبيعة العلاقات بين المواطنين بعضهم بالبعض وبالسلطة التي ينتظم بها شأنهم العام وشروط حياتهم المشتركة ترجمتها ترجمة مفهومية عامة في الديباجة ومفهومية قانونية في المتن.
فيكون الدستور بهذا المعنى ترجمة لمرجعيات القواعد المنظمة للحياة المشتركة ترجمة ذات مستويين:
• الترجمة الأولى هي الديباجة ووظيفتها تعريف المبادئ العامة وتعريف مقومات هوية الدولة بالمطابقة مع مقومات هوية شعبها.
ومن ثم فهي تحدد ما يتعالى على الدستور بمعنيين أعني:
1. هوية الجماعة التي تتبعها هوية الدولة حتما وإلا كانت دولة مستبدة مفروضة عليها
2. ثم المبادئ العامة التي تطابق أخلاق الجماعة بصورة عامة. وذلك هو مدلول تبعية هوية الدولة لهوية الجماعة.
• والترجمة الثانية هي متن الدستور ذاته ووظيفتها تحديد العناصر المضمونية التي ليس منها بد في حياة أي جماعة وجميعها حتمية الوجود في أي دستور صريحا كان أو ضمنيا أعني نصا أو عرفا وهي المضامين التالية:
1. المضمون الحقوقي أي جملة الحقوق التي تحدد شروط حرية المواطن وشروط حياته الأساسية شروطها الممكنة من الحرية بالمعنى الذي يجعله مشاركا في ضمان هذه الحقوق إما مباشرة في المجتمع المدني (وهو معنى واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأقل كما فهمه علم الكلام الإسلامي في أهم مدارسه وليس كما تعين في بعض البلاد التي جعلته سلطة تابعة للدولة) أو بمن يبنيه بصرف النظر عن كيفية تعيين النواب لأن ضروب انتخابهم حتى في الديموقراطيات تدرجت في التعميم من البعض إلى الكل.
2. ومضمون النظام السياسي أي مؤسسات الحكم وعلاقاتها بعضها بالبعض بصورة تجعل القانون المحافظ على المضمون الأول فوق الجميع وخاصة فوق من نوبته الجماعة لحكمها لفترة محدودة.
3. والمضمون الإجرائي المتعلق بتنظيم عمل المؤسسات في المكان والزمان عملها الهادف لتحقيق شروط العيش المشترك السلمي بأبعاد هذا العيش من حيث هو تواصل وتعاون وتبادل وتعاوض وتقاصص ببعديها المادي والرمزي خمستها سواء كانت بين الأفراد أو بين لجماعات المنتسبة إلى الوطن أو مع غير المنتسبين إليه
4. المضمون المحدد لعلاقة هذه القواعد وما يترتب عليها في ترجمتها علاقتها بالإرادة الجماعية (دور القوى السياسية والمدنية) وخياراتها القيمية لأنه من دون ذلك تبقى الديباجة مجرد نوايا لا تتحقق عينا في القوانين والممارسة ومثال ذلك أن اللغة العربية مات استعمالها الرسمي بحيث إن لغة الدولة إدارة وفكرا أصبحت لغة المستعمر أو طبيعة الانتساب إلى مجال حضاري أصحبت في فصام شبه تام حتى إن الارتباط الاقتصادي والثقافي بالمستعمر بات المقوم الأساسي للدولة فأصحبت التبعية بنية مقومة للوجود وبات الاستقلال شبه مستحيل لأن التبعية تعلقت بشروط الحياة العضوية فضلا عن شروطها الثقافية.
5. المضمون المحدد لشروط الملاءمة المتواصلة بالتغيير السلمي للنصوص في ضوء مراجعة خيارات الأمة نحو الأفضل لئلا يتحول إلى تغيير ثوري وغير سلمي. والأمر هنا يتعلق بكيفية العودة إلى مصدر كل تشريع أيا كانت منزلته من الدستور فنازلا: فيكون التعديل الدستوري مثلا مشروطا حتما بالاستفتاء أو على الأقل ما كان منه متعلقا بالمرجعيات وبالحقوق.
وبين أن دور هذا المضمون الأخير أساسي في تحديد المطابقة بين الدستور وإرادة الأمة لأنه يشبه دور الوعي بالذات عند الأفراد وهو أمر ناتج عن كون الدساتير التي لا يخلو منها عمران عند أخذها بمعناها العام قواعد لتنظيم الحياة الجماعية لم تعد مقصورة على الممارسة العرفية والضمنية بل هي أصحبت ممارسة تشريع صريح ومحدد نصيا (وكلية هذا المضمون ذهبت إلى حد الاعتقاد في ثقافتنا بأن الدين نفسه يحتاج إلى مجدد على رأس كل قرن تعترف به الجماعة حاصلا على هذه الأهلية بما له من علم وخلق بحيث إن التجديد لا يصبح مقبولا بهذه الصفة إلا بعد أن ترضى به الجماعة وتجمع على توفر شروط الاجتهاد في صاحبه).
فالدستور يعود هنا على ذاته لمراجعتها مراجعة هي فرصة الوعي الجمعي للمطابقة بين ما يجري فيه وما يجري في مأسسته له. لذلك فهذا المضمون يقتضي أن تتجنب الجماعة الحالات التي يصل التعارض بين الترجمة والمرجعيات المعبرة عن الخيارات القيمية إلى ما يشبه فشل المنظومة التفسيرية للنظريات العلمية ما يؤدي إلى ثورة تمثل في تغيير النموذج التفسيري أو الترجمة الأكثر ملاءمة لوقائع التجربة العلمية: فتكون نسبة منظومة القواعد القانونية التي يشرع لها الدستور إلى خيارات الإرادة الجماعية هي عين نسبة منظومة النظريات العلمية إلى وقائع الظاهرات التي يشرع لها العلم قوانينه.
لذلك فالدستور ليس أعلى سلطة تشريعية – بخلاف ما يزعم أدعياء القانون الدستوري-بل هو وسيط بين:
1. درجتين متقدمتين عليه
2. ودرجتين متأخرتين عنه.
وكل الدرجات -والدستور وسط بين الأوليين والأخيرتين- تتعلق بالحقوق والواجبات في بعديها الأفقي (بين المواطنين) والعمودي (بين المواطنين من حيث هم محكومون وبينهم من حيث هم حاكمون بمقتضى مبدأ التداول على الحكم) والمتعالي عليهما أعني العلاقة بالمرجعيات التي تجعل الحقوق والواجبات ليست حصيلة علاقات قوة بينهم بل حصيلة علاقة خلقية محددة وقابلة للتطوير علاقة بين واقع القيم ومثالها الأعلى سواء نسب ذلك المثال إلى سلطة دينية أو إلى سلطة عقلية أو إليهما معا. وهو في حقيقته لا يكون سويا إلا بالنسبتين بل هو دائما منتسب إليهما معا لأن المثال في كل الحالات ليس مجرد موضوع للعلم (سلطة عقلية) بل هو كذلك موضوع للشوق (سلطة روحية): فالتعاقد لا يمكن أن يكون بين متعاقدين من غير ضامن متعال عليهما يحتكمان إليه حتى في حالات القانون الوضعي. والحكم في هذه الحالة متعال على طرفي العقد بمعنى أنه المثال الذي يشتركان في الإيمان به إيمانا قد يسبقه دعوى العرفان أو دعوى الوجدان.
والسلطتان التشريعيتان المتقدمتان على الدستور هما مصدره ومرجعه:
1. -خيارات مضمونية تعبر عن إرادة الجماعة : شروط العلاقة السلمية بين الموجود من مادة العمران بفرعيها الاقتصادي والثقافي والمنشود منهما أي شروط العلاقة السلمية بين مصالح المواطنين من حيث العلاقات الاقتصادية والثقافية : خيارات الجماعة الخاصة بالثروة وبالتراث.
2. خيارات شكلية تعبر عن إرادة الجماعة: شروط العلاقة السلمية بين الموجود من صورة العمران بفرعيها السياسي والتربوي والمنشود منهما أي شروط العلاقة السلمية بين مصالح المواطنين من حيث العلاقات السياسية والتربوية في الجماعة: خيارات الجماعة الخاصة بالسلطة الفعلية وبالسلطة المعنوية.
والسلطتان التشريعيتان التاليتان عن الدستور هما ثمراته وترجمته:
• الترجمة المؤسسية:
لجعل تلك الخيارات الخاصة بالثروة والتراث تنتقل من الطابع غير المصور للإرادة إلى الطابع المصور: الهدف هو تنظيم القوى الاقتصادية والثقافية والحكمية والتربوية تنظيما ينقلها من الصراع اللامقنن إلى التعاون والتبادل والتعاوض المقنن أعني تنظيم المؤسسات الاقتصادية والنقابات والمؤسسات الثقافية والجمعيات والأحزاب والمدارس.
• الترجمة الإجرائية:
لجعل عمل المؤسسات يحقق الخيارات الخاصة بالسطلة الفعلية والسلطة الرمزية أعني جملة القوانين التي تضبط سلوك تلك المؤسسات والأفراد فيها فتجعلها قادرة على تحقيق التعاون والتبادل والتعاوض حصولا يغلب التعايش السلمي على الصراع اللامقنن.
سلطان الدستور: ما طبيعته وما حدوده
إن سلطان الدستور على السلطتين المتقدمتين عليه هو ترجمته إياهما ترجمة تبقى دائما خاضعة لهما. ولذلك فهما منطلق كل مراجعاته لذاته من قبل الجماعة التي تريد أن توفق بين واقعها ومثالها الأعلى.
أما سلطانه على السلطتين المتأخرتين عنه فسلطان مطلق لكونه سلطانا على ممثلي ما قبله بالاحتكام إلى ما دونه ما أرادوا البقاء في ترجمته لما قبله بالشروط التي حددوها فيه من حيث عودته على ذاته لتحديد شروط تغييره السلمي للبقاء في حدود ترجمته لما قبله.
ولكون الدستور هذا الوسيط بين السلطانين تجده منعكسا على ذاته إذ هو يضيف إلى هذه الأبعاد بعد العودة على ذاته ليحدد شروط تغييره فيكون محددا لقواعد ما دونه من القوانين ومحددا لقانون تعامل الإرادة الجماعية مع ترجمتها الدستورية تغييرا وتطويرا بالطرق المحافظة على سلمية العلاقات بين القوى في تحديد إجراءات تحقيق الخيارات. وعندما تفشل هذه التغييرات والتحويرات السلمية في تحقيق الملاءمة بين الترجمة القانونية للخيارات والخيارات يحصل التغيير الثوري كما يحصل تغير النموذج التفسيري في المعرفة العلمية عندما يكون تطوير النظرية التفسيرية غير كاف لتفسير معطيات الظاهرات التي تنظر لها تلك النظرية.
ما يدور حوله الدستور سواء كان صريحا أو ضمنيا
وكل دستور يعلن صراحة عما يتعالى عليه من مرجعيات تتحكم في التغيير السلمي للمؤسسات والإجراءات لكونه يؤسس عليها تعليل استخراجه للترجمة القانونية لشروط العيش المشترك السلمي في المجالات الخمسة التي ذكرنا:
في مجالي مادة العمران أي الاقتصاد والثقافة.
والمجال الأول يتعلق بشروط العيش المادية للأفراد والجماعة إنتاجا وحفظا وتبادلا وتعاوضا في الداخل والخارج.
والمجال الثاني يتعلق بشروط العيش الروحية للأفراد والجماعة بنفس المعنى.
ومجالي صورة العمران أي الحكم والتربية. والمجال الأول يتعلق بتحقيق شروط المشاركة في العيش بحيث يكون سلميا وذلك بأدوات التحقيق القانونية والقوة الشرعية. والمجال الثاني يحقق شروط المشاركة في العيش بحيث تكون ذات معان ترضي النفوس والعقول وذلك بأدوات التحقيق الرمزي والأخلاق الموضوعية.
لكن أهم العناصر في أي دستور هو أصل كل المجالات أعني العنصر الذي يحقق الوصل بين الإرادة وترجمتها القانونية أي عودة الدستور على نفسه في تحديده علاقته بالإرادة التي تغيره وتطوره في ضوء ملاءمته للخيارات القيمية للجماعة تجنبا لما يمكن أن يحصل في حال التعارض مع القيم الجماعية وهو ما يؤدي إلى الثورة. وهذه القيم الجماعية في مجتمعنا اليوم تنقسم إلى صنفين يظنهما طرفا المعادلة السياسية المتصارعين مختلفتين:
• قيم الجماعة التي تعتبر المرجعية المتعالية على الدستور هي قيم حقوق الإنسان والقانون الدولي الوضعي الذي وضعته إرادة مخصوصة ذات ثقافة معينة.
• قيم الجماعة التي تعتبر المرجعية المتعالية على الدستور هي قيم معتقد ديني معين ليس بالضرورة متنافيا مع الكلي والعادل من النوع الأول من القيم.
لذلك فنحن نؤمن بأن قيم أي جماعة لا تكون سوية إلا إذا كانت مرجعيتها المتعالية على الدستور مؤلفة من قيم تتصف بصفات تجعلها قابلة لأن تجمع بين هذين الضربين من المرجعيات المتعالية وذلك بشرط أخذ الأمرين التاليين بعين الاعتبار:
فقيم حقوق الإنسان إذا نزع عنها ما ضمنه إياها الشكل الثقافي لواضعيها واستخرج منها الكلي المطابق لمثل العقل الإنساني المتحرر من الاسقاطات الثقافية التي هي من خصوصيات الواضعين تصبح كونية.
وقيم الإسلام عندما تفهم بمعزل عن تعيناتها التاريخية التي لا تتفرد بكونها بعيدة عن مثلها العليا هي عند كل منصف كونية: فكل التعينات التاريخية لكل المنظومات القيمية تتصف بهذا الابتعاد دون أن يكون ذلك سببا في الاحتكام إليه لمقاضاتها. ولو فعلنا لما بقي نظام قيمي مقبول أصلا.
لذلك فالصراع بين المرجعيتين المتعالتين الأوليين يقبل الحسم بالمصالحة بين الشرعي والوضعي كما يقتضي ذلك الإسلام في النص والممارسة ذلك بالصورة التالية.
الصلح الضروري بين المرجعيتين
وحتى نقدم مثالا عن إمكانية هذا الصلح سنأخذ الوجه الأعسر من الإشكالية: علاقة الشريعة الإسلامية بالقانون الوضعي.
فيكفي أن نحلل مستويات المرجعية الشرعية ومستويات المرجعية الوضعية حتى نكتشف ما تلتقيان فيه بوصفه المرجعية المتعالية المشتركة بينهما بمعنين أحدهما يتعلق بالجمع بين المجالات المتجاورة من مجالات التشريع والتقنين والثاني يتعلق بالمجالات المتطابقة منهما.
فما مستويات المرجعية الشرعية؟
لما يقابل الناس بين الشريعة والقانون الوضعي بصورة مجملة دون تحليل يكون التنافي بينهما أمرا بديهيا. لكن تحليل مستويات الشريعة والقانون الوضعي يثبت أن هذا التناقض صادر عن موقف إيديولوجي من المدافعين عن الشريعة ضد القانون الوضعي وعن القانون الوضعي ضد الشريعة بفهم ضيق لا يناسب دلالتهما العميقة. فأحكام الشرائع الوضعية ليست متنافية بإطلاق مع أحكام الشرائع المنزلة عامة أو على الأقل أحكام الشريعة الإسلامية وذلك للعلتين التاليتين:
• فأولا لأن الشرائع الوضعية قابلة لأن تتعلق بما ليس فيه أحكام قرآنية أو سنية ما دامت صفات الفعل الشرعية تنقسم إلى ما له حكم شرعي موجب بدرجتيه أو سالب بدرجيته وما حكمه الإباحة لعدم اتصافه بأية صفة من هذه الصفات الأربع (الفرض والمندوب والحرام والمكروه) وذلك في جل الشؤون الإنسانية.
• وثانيا لأن الشرائع الوضعية تستند إلى قيم عليا متطابقة مع روح الشريعة أعني المستوى الأرقى من قيم الشرائع السماوية: وأولها شروط صحة الحكم من حيث هو حكم أعني خاصة المثل العليا للحكم مثل “وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل” أو مثل “الصدق في الشهادة حتى على النفس إلخ….”.
والمعلوم أن هذا المستوى من الشريعة أرقى من المستويين اللذين يشار إليهما عادة عند الكلام على الشرائع المنزلة أعني مستوى الحدود ومستوى المقاصد رغم أنه متأخر عنه تأخر الغاية عن شروط تحقيقها أعني المستويين اللذين يضمنان حصوله.
فالشروط الضامنة لتحقيق هذه الصفات في الحكم تقبل التحديد على النحو التالي وهي جميعها تمثل في آن شروط صحة الحكم وشروط شرعيته ومن ثم شروط انتسابه إلى الشرائع السماوية. فبالإضافة إلى الأحكام التي تبدو خاصة بالشرائع السماوية:
1. فبعد التحديد الضيق للأحكام الشرعية بعقوبات معينة هي وسائل تحقيق الغاية من الحكم (الحدود)
2. وبعد التحديد الأوسع منه بغايات معينة هي مستقرآت من الغايات الواردة في نصوص الشرائع السماوية (المقاصد)
بعد هذين المستويين نجد قلب المحددات التي لا يمكن أن نقابل فيها بين ما ينتسب إلى الشرائع السماوية وما ينتسب إلى الشرائع الوضعية أعني ما يجعلها أحكام قضاء يفصل بين المتقاضين بصورة متحررة من ذاتية الحَكم أعني:
3. تعيين الصفة التي تتصف الأحكام بها لتكون مشروعة بصرف النظر عن مرجعية الحكم وهي صفات تتعلق بشروط صحتها إجراءات وعدالة (المثل العليا المحددة لشروط الصحة الشكلية).
ثم نجد الشرطين المحققين لهذه الصفة الجوهرية للحكم الشرعي والوضعي في آن:
4. وأولهما هو ما يتعلق بصفات القاضي بصرف النظر عن النصوص التي يطبقها (النزاهة والاستقلال عن أي سلطان غير سلطان ضميره في فهم النص القانوني)
5. والثاني يتعلق بخيارات المتقاضيين العقدية أعني بمرجعيتهما التي بمقتضاها يعتبران الحكم في نزاعهما حكما ذا شرعية ليست محل جدل وخاصة عندما يكون الأمر متعلقا بخلاف ضمن نفس المعتقد: فلا ينطبق على المرء إلا ما يقبل به بمقتضى انتسابه للجماعة شريعة سماوية كان أو شريعة وضعية بنص القرآن (من ذلك دعوة اليهود والنصارى للاحتكام إلى شريعتهما في آل عمران) وحتى بالنسبة إلى حقوق الإنسان فإن حرية المعتقد تقتضي ألا نطبق على إنسان شرعا غير الشرع الذي يؤمن به: وعندما يحصل خلاف بين شخصين من شرعيتين مختلفتين ينبغي تطبيق شريعة الأغلبية في الدولة.
منزل بورقيبة في 2013.03.28

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock