لطيفة و العطر !

فتحي الشوك
صرّحت “المسرحجية” لطيفة القفصي بأنّها لو تمّ عرض عطر باسم “محرزية” فلن تقتنيه معلّلة ذلك بأنّه قد يوضع في قارورة قديمة وقد يكون خاصّا بالموتى وهي تهوى الحياة، فانتقل “الصحفجي” إلى ضيفه الثّاني “الشاذلي صاحب شالوم” فكان أكثر صراحة إذ لا يرى “محرزية” في عطر بل في سواك أو “لوبان” عربي لينغمس الجميع في قهقهة صاخبة وبلا انقطاع.
تعوّد الجميع على أن تكون النّهضة متواجدة، في الغالب غيابا أو في مرّات قليلة حضورا، في كلّ المشاهد الإعلامية المذاعة أو المصوّرة أو المكتوبة فهي كالملح الّذي لا يغيب عن أيّة مائدة وارتفاع أسهم أيّ كان مشروط بتوجيهه سهامه تجاهها، بل إنّ استعداءها يكفي بعض الكيانات جهد البحث عن المشاريع والبرامج.
وبعيدا عن الصّراع السّياسي والإيديولوجي وما ينتج عنه من مناكفات قد يدخل في باب التّدافع الايجابي، فإن ما يحصل حاليا هو أخطر من ذلك إذ تعرّى الخطاب المبطّن الّذي كان يقال تلميحا ليكشف منسوبا عاليا من الحقد والكراهية وليرشح عنصرية مقيتة.
من الطّبيعي أن تستحضر “لطيفة” الّتي لم تكن لطيفة، النّهضة فذاك مربط الفرس ولأجل ذلك استجلبت من الأرشيف كما تستجلب كلّ تلك الوجوه البالية بعد أن يزال عنها بعض الغبار وتلمّع، لكنّ الملفت أن تصل الصّفاقة والفجاجة إلى ذلك الحدّ وهو دليل بأنّ المرض استفحل وصار خارج السّيطرة.
فما الّذي يجعل الآنسة لطيفة الحاضرة تستدعي السّيدة محرزية الغائبة؟
تعتبر السّيدة محرزية العبيدي مثالا تحقّق لامرأة ناجحة، وهي الأقرب لأن تكون المرأة النّموذجية في مخيال الإنسان السّوي، سليم القلب والمدارك العقلية: امرأة متعلّمة، مثقّفة نيّرة راكمت النّجاحات وتقدّمت الصفوف الأولى في حزبها وساهمت كنائبة لمجلس تأسيسي في إخراج دستور توافقي أرضي الجميع حينها ليحاول البعض الانقلاب عليه الآن ولا يفوّت مناسبة لخرقه.
هي مثال لقدوة أثبت أنّها من الممكن أن تتحقّق وتلك هي المعضلة، فالفكرة تحارب غالبا باستهداف من يحملها لكي لا تجد في النّهاية من يحملها. وبروز أمثلة لقدوات تتحقّق، تمشي على الأرض وتتنفّس وتنمو يثير حفيظة من لا يريد نشر سوى صور مشوّهة لأشباه قدوات مصطنعة هجينة ومنبتّة.
تعلم لطيفة أنّ محرزية لن تنتج عطرا باسمها لكنّ مضمون ما تريد أن تقوله أنّها تكره رائحة محرزية الّتي تذكّرها بالموت وأنّها ومثيلاتها من طفيليات العصر النوفمبري يعشقن الحياة كما يعشقن “الجبن”.. وهي قديمة بينما هي وهنّ من الحداثيات الّاتي لا يقبلن أن يفتحن ليسكبن عطرا بل يرتضين أن يكون ذلك بالضّغط و”البخّ”.
هو خطاب ينضخ كراهيّة، حقدا وعنصرية واستحضار العطر هو تجلّي لاشعوري لتعفّن وقذارة من قام بذلك وقد يكون مردّه عقدا نفسية عميقة فنفس من تنفث هذه العبارات من فيهها قد مورس عليها أنواع مبطّنة من التّهميش والعنصرية من قبل من يضعونها حاليا كقذيفة لمدفع، فهي حوصرت في رحلتها “الفنّية” بين أدوار الخادمة والوقّاعة والمرأة الأمّية الجاهلة واستعملت لأجل لهجتها تنذّّرا وفكاهة مع أنّها من عمق موروثنا الثقافي، في ترسيخ للنّظرة الدّونية الّتي مارسها ويمارسها البعض على الكلّ وفي استمرار لنهج الصّدام الّذي اختارته نخبة منبثّة مستوطنة متصادمة مع الأرض والتّاريخ.
كان تعليل لطيفة أقبح من ذنب وكذلك كان تعقيب “الشّاذلي صاحب شالوم” فهو لا يرى في محرزية عطرا بل سواكا و”لوبان” عربي مع وضع سطرين تحت كلمة عربي الّتي جعلت الحضور يصابون بنوبة ضحك هيستيرية.
هي كراهية وحقد دفين لكلّ ما يعتبرونه قديما أو غير مطابق لنمطهم “الحداثوي” المعولب الّذي لم ينتج سوى مسوخا بشرية، وهم كطفيليات ضارّة يقلقهم أن تسترجع الأرض صورتها الأولى لتنتج ما ينفع النّاس.
هو خطاب كراهية وهي جريمة بكلّ المقاييس ومن يتغافل عليها لينظر ماذا كانت النّتيجة في مصر والعراق حاليا وفي رواندا في تسعينيات القرن الماضي ولمن وقع التعرّض لهم عليهم أن يشعروا بالمسؤولية ويقفوا وقفة حزم إن لم يكن لأجل أنفسهم فلأجل وطن نريده أن ينهض و يثمر.

Exit mobile version