عند طبيبة النساء
ليلى حاج عمر
الثورة الولاّدة (إهداء إلى الشابّات الحوامل اللاتي رأيت. ما أجملكنّ)
لم أخف ابتهاجي وأنا ألمح في قاعة الانتظار أزواجا شبانّا يجلسون إلى جانب زوجاتهم الشابّات ينتظرون معهم قدوم الطبيبة. لم أخف ابتهاجي فلا أجمل عندي من عطر رضيع غير عطر أمّه المرضعة. كانوا صغارا ما بين الخامسة والعشرين والثلاثين وكان أحدهم أكبر قليلا فابنته تلعب أمامه وهو ينتظر ببهجة وفخر المولود الثاني. أربعة أزواج تقريبا فحتّى الفتاة الجالسة بمفردها لحق بها زوجها بعد أن هاتفته حاملا لها معه الماء وأشياء أخرى ودخل دون تردّد. غبطت هؤلاء الزوجات ففي زمننا نادرا ما كان الزوج يرافق زوجته إلى طبيبة الحمل والولادة، وكنت في الماضي أجد القاعة مكتظّة فقط بالنساء اللاتي يأتين منفردات ويفرغن في القاعة شحنة الغضب من أزواجهنّ الذين يبقى جلّهم أمام العيادة أو في مقهى قريب.. في أحسن الأحوال.
راقبت سعيدة الأزواج الصّغار وتذكّرت ما يقوله ابن خلدون عن “تبدّل الأحوال، وهو داء دويّ شديد الخفاء لا يقع إلا بعد أحقاب فلا يكاد يتفطّن إليه”. ها نحن أمام نوع آخر من الأزواج. إنّهم أزواج ما بعد الثورة متحرّرون من الإرث الثقيل الذي كنّا نحمل، عفويون وسعداء. ابتسمت لهم وانتبهت إلى أنّهم عرائس أوّل الصيف فبطون الزوجات المتكورة تنبيء عن حمل ستّة أشهر تقريبا. هذا ما تسمّيه أمّي حفظها الله: شُقّو دُقّو. يا سعدنا بكم ويا سعد وزير التربية الذي سيفاقم إنجابُكم السعيدُ أزمتَه المديدةَ.
من فرط الابتهاج أخذت كتابا من الحقيبة وشرعت في القراءة مطمئنّة على مستقبل البلاد. ولم يقطع قراءتي سوى صوت امرأة في سنّي (لا أكبر قليلا) تدعو زوجها إلى الدخول فيتأبّى. فتلحّ فيدخل مستحييا ويجلس وكأنّما يجلس على الشّوك. نظرت إليه مشجّعة وكـأنّي أقول له: ليس عليك حرج يا حاج. انظر هؤلاء الشباب كم هم رائعون لا يحملون هما ولا يعقّدون أمرا. فينظر إليّ وقد احتقن وجهه وكأنّما يقول: يا حسرة على السّتر. كنّا نقوم بكلّ شيء بستر ربي. ملّا جيل. انظري انظري هذا الجيل. فأجيبه في سرّي: ما به؟ الساعة حليلتهم يعملو كيف. خالين من كلّ العقد التي ولدنا بها. بربي موش هكّة خير؟ موش بعد الثورة خير؟
في التفاتتي رأيت الأزواج الشبان قد فتحوا هواتفهم وغرقوا في عوالمه. نظرت إلى الشاب بجانبي (وكان يرتدي بنطلونا أقلّ تمزّقا ممّا يرتديه غير المتزوّجين. لقد بدا يعقل) فوجدته منساقا وراء لعبة كتلك التي يلعبها ابني وهو تلميذ. نظرت إليه شزرا وكأنّي أقول له: أب وتلعب؟ ألا تعلم ما ينتظرك؟ نحن في سنّك لم نفكّر في الإنجاب إلّا بعد أن كدنا نستشير صندوق النقد الدولي ومنظمة الصحة الدولية ومنظمة الطفولة العالمية بل ومنظّمة العفو الدولية أيضا. فتحنا كلّ الكتب وقرأنا كلّ المقالات وطرحنا كلّ الأسئلة الوجوديّة. ما الحياة وما الموت؟ وكيف نكون الإنسان؟ وما السّعادة؟ وكيف يكون ابنك سعيدا وابن ابنك والجيل الثامن من بعدك؟ اسمعني يا ولدي. ليس هيّنا أن تكون أبا. ليس هيّنا أن تحضر إنسانا إلى هذا العالم وتقول له: عش هنا هذا قدرك. ليس هيّنا. سيتمرّد عليك يوما ويقول لك: لِم لَم تلدني في الدّنمارك السّعيد؟ قل لي، هل تسمع الأخبار؟ هل تعلم مستوى المديونية؟ ومستوى الصحة والتعليم؟ والاقتصاد؟ ومستوى الدينار؟ والعركة بين رئيس الحكومة والنداء؟ يا إلهي كيف تلعب؟ كنت لا أنام الليل.
يلفت إليّ الشاب مبتسما وقد تفطّن إلى نظراتي التي أختلسها إليه وكأنّه يقول: ماتخافش مدام توّة نسلكوها.
نسلكوها؟ مابرد قلبك يا وليدي. كيف ستسلّكونها؟ بالهجرة؟ أم بتدبير الراس؟ أمان قولولي قولولي الحقيقة. كيف ستسلّكونها؟ طيب اسمعني (أهتف في سرّي) أنا في التعليم. التعليم العمومي الآن سفينة تغرق. أين ستدرّسون أبناءكم؟ في الخاص؟ أنت يا من ستنجب متعجّلا ابنا ثانيا بعد ابنتك التي تلعب أمامك، هل فكّرت كم ستدفع كلّ شهر لصاحب المدرسة الخاصّة؟ هل تعلم بكم الشقّة الصغيرة التي لا تسكن قطّا الآن؟ قس على ذلك النّقل والصحّة. آه الصحّة. ذلك جبل آخر.
يلتفت إليّ والد البنت التي تلعب وكأنّه يقول: كفّي عن القلق مدام سنتحمّل مسؤوليتنا. ثمّ مشفقا: القلق لا يلائم سنّك. انتبهي إلى صحّتك. ثمّ أنت قلقة وكأنّك تحملين أبناءنا في بطنك. ارتاحي سيدتي.
أستفيق على صفعة الشاب. أجل نحن جيل القلق. نقلق على كلّ شيء، ومن كلّ شيء. ونحمل كلّ شيء في بطوننا وعلى ظهورنا وفي رؤوسنا. من أزمة الحريّات في البلد إلى رباط الحذاء الذي لم نعقده جيّدا حين كان أبناؤنا صغارا، فنظلّ على قلق حتى يعودوا سالمين دون تعثّر. ومازلنا حتى الآن جيل القلق. تذكّرت ما يقول آل باتشينو: مرض التفكير ليس له علاج، حتى لو استطعت أن تنام، ستحلم بما تفكر به.
قرّرت أن أرتاح. فتحت الكتاب ثانية وغرست راسي فيه، ولم أقتلعه إلا على صوت الممرّضة الجميلة (أظنّها كانت حاملا أيضا) تعلن أنّ دوري قد حان.
حين خرجت، بعد زمن، وجدت الحاج قد غادر والشباب قد تركوا هواتفهم وفي عيونهم نظرات قلق وعتاب. ظننت أنّ قلق التفكير قد تسرّب إليهم فانشرحت. ولكنّي انتبهت في ما بعد إلى أنّ قلقهم قد يكون مردّه تأخّري عند الطبيبة التي تقترب من سني وتنتمي إلى جيلي. وسمعتهم في سرّي يصرخون: هل تحدّثتما في كلّ شيء؟ في الصحة والتعليم والثقافة؟ في أزمة النّداء وأزمة الماء سنة 2050؟ في النهضة الرواندية والفشل التونسي؟ في شركة الخطوط الجوية الأثيوبية الأولى في افريقيا والخطوط التونسية منكودة الحظ؟ في أزمة البطريق في القطب الشمالي؟ طيب هل حُلّت أزمات العالم؟ يا مدام أنتم جيل لا يقدر سوى على الكلام.
انسللت على استحياء بعد أن همست لهم: انشالله لاباس. وربي يوصّل بالسّالم.
وفي وسط الطريق كنت أهتف في سرّي: هي الثّورة حبّالة ولّادة نهدها مرضع وبطنها خضراء وفرحها آت آت.