عبد اللطيف علوي
في إطار التّطبيع مع سفّاح دمشق، قناة الواطية 7، تبثّ الآن شريط نخبك يا وطن لحذاء بشار دريد لحّام.
يخامرني الآن سؤال يلحّ إلحاحا :
هل وجد دريد لحّام “شويّة كرامة” عند بشّار ..؟؟
أذكر وأنا مراهق في ثمانينات القمع العربيّ، صرخته المرّة، وهو يحاور أباه الشّهيد، في مشهد سيرياليّ عاطفيّ سياسيّ وجوديّ عظيم… أذكره وأبوه يسأله في نهاية الحوار باللّهجة السّوريّة: “يعني مُو ناقصكم شيء ؟”
فيجيبه وهو يترنّح ثملا جوابا يشقّ الصّخر: “مو ناقصنا غير شويّة كرامة يا أبي…”
ذلك المشهد فجّر فيّ أحزانا رهيبة وبراكين غضب ووعيا حادّا كنصل خنجر، وكان أبلغ من ألف قصيدة..
أذكر أنه بعد ذلك بسنوات، أنّني بمجرّد أن سمعت بقدومه إلى مسرح دقة لعرض مسرحيّة “شقائق النعمان”، تكبّدت يومها ما تكبّدت من السير مسافة عشرات الكيلومترات على القدمين، كي أحظى بشرف الحضور أمام ذلك الأسطورة المقاومة… وبعد العرض خرجت أنا وصديقي وقد أزهر الحلم أكثر في روحينا الغضّتين، فقد ازداد إيماننا يومها، أنّ لهذه الأمّة غدا، وحقّا في الكرامة والحياة مادام فيها أمثال دريد لحّام… ذلك الّذي كنّا نراه فارسا يحمل الهمّ القوميّ والوجوديّ للإنسان العربيّ، في عصر انسدّت فيه كلّ الآفاق..
ما الّذي حدث بعد ذلك ؟؟؟
مرّت ما يزيد عن عشرين سنة… ونهض الإنسان العربيّ من تحت الرّماد، وزحف على جراحه باحثا عن “شويّة كرامة..” دفع الشّهداء بالآلاف.. بمئات الآلاف، في سبيل ذلك… لكنّ الفنّان الّذي ظننّا لعشرات السّنين أنّه ينطق بألسنتنا، ويكتب نصوصه ومسرحيّاته بدموعنا ودمائنا، اختار، في لحظة سخرية تاريخيّة صادمة، اختار أن يكون شبّيحا إلى صفّ أكثر السّفّاحين العرب دمويّة على مرّ التّاريخ..
مثله مثل الكثيرين من أبناء النّخب الّتي لطالما كانت رموزا في الطّريق المرير نحو الحرّيّة.. سقط سقوطا مدوّيّا، واختار أن يحمل وزر الدّم العربيّ مع إلهه العسكريّ.
هل وجد الكرامة الّتي تحدّث عنها في سجون بشّار، ومقابره وملاجئه ومسالخه ؟؟
هل وجد الكرامة في أحذية العسكر الأسديّ ؟؟
هل وجدها في جثث الأطفال الّذين اقتلعت عيونهم وأعضاؤهم، وفي دماء الحرائر اللّواتي اغتصبن بالآلاف، والرّجال الّذين دفعوا إلى المحرقة في واحدة من أفظع ما ارتكبه الجنس البشريّ من جرائم منذ وجوده على ظهر البسيطة ؟؟؟
لا أستطيع أن أغفر للمثقّف أن يغمس يديه في بركة الدّم وينادم القتلة.. لا أستطيع أن أغفر.. ومن أنا حتّى أغفر ؟؟ وحدهم الشّهداء والمعذّبون والمشرّدون من يملكون حقّ الصّفح والغفران…
أنا حزين حقّا… لأنّ أشياء كثيرة عاشت معي سنين، صارت تموت في داخلي بصمت وبدون أمل في الرّجوع… لكنّني سعيد أيضا في نفس الوقت وبنفس القدر، أن تحرّرت من أوهام كثيرة، وعرفت أنّ هذه النخبة الساقطة جزء لا يتجزّأ من مأساة الإنسان العربيّ، ومنها بالتّحديد يبدأ التحرّر.
#عبداللطيفعلوي