تدوينات تونسية

"الصِّبابة…"

علي المسعودي
“الصِّبابة” هي فلسفة في الحكم، وهي لقاح دارج الاستعمال يُحْقَنُ به الشعب حتى يتمّ تحصينه من أعراض التمرّد والثورة، وآمال الحرّية التي تخشاها آلهة الأرض وكل أوليغارشية.
و” الصِّبابة” هي فنّ صناعة الخوف من كل الأشياء: الحجر والبشر، وما نستنشقه من هواء.
يبدأ هذا الوهم بذرة صغيرة في سويداء القلب، ثم تتمدّد وتسافر عبر الشرايين.. وتنشأ من البذرة جذور وأغصان تكسوها أوراق سوداء، إلى أن يغرق في ظلها القاتم كلّ الجسد.. ثم تنتقل بالعدوى إلى الأصول والفروع، وإلى الجيران والمعارف، وسرعان ما تغزو كلّ شبر في البلد !.
هكذا تنمو شجرة الوهم القاتل، وتنشأ جمهورية الخوف..
الخوف له جنود أمناء يتعهّدون نبتته بالسقاية في كلّ الفصول. إنها جمهورية الوشاة والمخبرين، جمهورية تنام معك في الفراش، وتسكن أحلامك وأضغاثها، وقد يحضنك في الظلام بدلا عن الزوجة واش، جمهورية التهم الكيدية، والتقارير المكتوبة والشفوية، تنتقل في العلن والخفاء إلى آذان البوليس السري وبصر الرّقباء.
تجلس إلى طاولة المقهى وفي الطرف الأخر أخ لك أو صديق، وينفضّ اللقاء وأنت أقرب إلى التصديق بأنه مخبر لا رفيق. تأخذ مكانك خلف سائق تاكسي أوقفته صدفة، فتنظر إلى أذنيه القمعيتين وترتعب إلى حدّ الموت.. وتنحبس الأنفاس ومعها اللسان والصوت.. تمشي في الأسواق متصفِّحا الوجوه العابرة وتبالغ في التحديق، فالجميع في ذهنك قد أصبح واشيا أو ناقلا لوشاية في الطريق.
تستبدّ بك الوساوس، وتدفعك دفعا إلى سوء الظنّ بالمتسوّل في زاوية الشارع، ببائع الشاي والسجائر، وبالجار الذي يُتَعْتعه ثقل عامه الثمانين، وتظل تبحث عن خيال واش حتى في عيون الحمقى والمجانين.
أنت إذن ضحيّة شجرة الوهم التي زرعها الحاكم فينا واستثمر فيها كل هذه السنين. ولكن الحاكم نفسه لم يسلم قط من دوّامة الخوف. فهو أكثر هلعا ورعبا. ويخشى في كل لحظة من ارتخاء قبضته على رقاب الخائفين.. وهو أوهن عودا مما يذهب في ظن المخبرين.. فيظل، مع كل فجر، ينتدب وشاة جددا، مأجورين ومتطوعين.. حتى يطفئ نار خوفه.. ولا تزيد النار إلا اشتعالا..
تلك أيام لا أعادها الله..
ذهب الخوف إلى غير رجعة، ولكنّ جنده لم يذهبوا… فقد حصلوا على إعادة تأهيل !.
•••
نحن بلد لا ينتج الموز بل يستورده، كما أن الخوف لم يولد معنا في البطون، ولكننا نصنعه.. ومع ذلك ما أسرع ما تحوّلنا من جمهورية الخوف إلى جمهورية الموز.. !
“الصِّبابة”: فعل المخبرين

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock