سيدي فقدتني اليوم ؟
الطيب الجوادي
كلما دخل الأستاذ الطيب قاعة الدرس وجد رسما له على السبورة ممهورا بإمضاء تلميذته: ملكة الجلاصي!
منذ اللقاء الأول بتلاميذه أضحت هذه الفتاة السمراء المبتسمة على الدوام، تنتظره أمام باب الكولاج لتطمئن أنه لم يتغيب فتحييه بإشارة من يدها ثم تنتظر حتى ينتهي من تحية العلم، فتسرع إليه لتسلم عليه، وتأخذ بذراعه وتطلب منه أن ترافقه للقاعة دون أن تتوقف عن أسئلتها الساذجة البريئة: إنت لاباس سيدي، برد اليوم برشة، راك عطيتنا تمارين، نهز عليك المحفظة سيدي راهي ثقيلة، فيجيبها مرة ويتغافل عنها مرات فإذا دخل القاعة هيأت له الكرسى واطمأنت أنه نظيف وغير مكسور، ثم تخرج الطلاسة من كيس في حقيبتها وتمسح السبورة وتكتب التاريخ ثم تهمس له: تنجم تبدا درسك سيدي، فيشكرها بابتسامة عابرة وينغمس في درسه، ولا تعود هي إلى مكانها إلا بعد أن تتأكد من وجود الطباشير الملون ودفتر المناداة،
وإذا صادف أن خرج عن طوره بسبب تلميذ مزعج، تطلب منه بإشارة من يدها أن يهدئ من غضبه، وتقذف التلميذ المزعج بنظرات نارية “لخاطر نرفز سيدها”،
وملكة الجلاصي تتشرّب كل لفظة وكل جملة يتلفظ بها أستاذها وتطرب لكل نكتة، وتضحك من أعماقها عندما يسرد على مسامع تلاميذه حكايات الريف والمدرسة بأسلوبه المرح ولهجته الكافية المحبّبة، وفي كل مرة تطلب منه أن “يزيدهم حكاية أخرى من حكايات الريف”.
وبمجرد أن يرنّ الجرس تتجه للسبورة وترسم “سيدها” رسومات تنم عن مدى ولعها بمدرس “العربي”، فتسافر به عبر الزمن، مرة إلى الماضي ومرة إلى المستقبل !
التلميذة ملكة، لم تستقبل أستاذها مثل عادتها يوم أمس الإربعاء، انتهى من تحية العلم، فراح يقلّب ناظريه في كل الاتجاهات أملا أن يراها قادمة، دون جدوى، فأسرع للقسم يسأل تلاميذه عنها ليتبين أنه لا أحد يعرف سبب غيابها ولا رقم هاتفها، لم يستطع الأستاذ الطيب أن يبدا الحصة، فكلف أحد التلاميذ في الساحة أن يدخل كل الأقسام ويسال إن كان هناك من يعرف رقم التلميذة ملكة الجلاصي، وجاءه التلميذ بعد نصف ساعة خالها دهرا ليعلمه أن لا أحد يعرف رقمها!
جلس المدرس على كرسيه وقد استبدت به الهواجس وطوقته الأفكار السوداوية واهتز قلبه وهو يسمع ضجيج سيارة إسعاف تولول من بعيد!
ولم يعرف كيف يبدأ درسه ولا كيف يهدّئ من روعه، وقبيل أن يرن الجرس، وجدها أمامه مبتسمه وهي تسأله ببراءة: سيدي فقدتني اليوم؟ ولتعلمه “أن الكار فاتتها ولم تتمكن من الوصول للكولاج في الوقت المتاسب”!
عندها دبت فيه الحياة وسأل تلاميذه: فهمتو درس النحو؟ ليجيبه تلاميذه في صوت واحد: لا لا لا
سنعيده بعد غد أجابهم وهو يشعر أن آلاف الشموس قد أشرقت في قلبه.