في الممانعة والعجرفة..
نور الدين الغيلوفي
توابع الممانعة في بلادنا يحقنهم متبوعوهم بجرعات من التعالي والعجرفة كأنّهم يمسكون بباب مدينة العلم ويقفون على كوّة الفهم ويجلسون على كرسيّ الاستراتيجيا دون سواهم.. يتحكّمون في مصائر الخلق دنيا وأخرى.. يحصون على الناس أنفاسهم في الدنيا ويصادرون على الله أحكامه في الآخرة.. كأن يقول بعضهم وهو يتحدّث عن ردود أفعال الإسلاميين إزاء ثورات الربيع العربي ((ولا ينصر الله من ارتضى لنفسه هذا الدور ونسبه اليه)).. كأنّه قدِم للتوّ من عند الله يبلّغ عنه رسالته إلى الخلق…
هذا شخص دعيّ عدوانيّ يمارس تعاليا لست أرى له مبرّرا إلّا ما ينشأ عن حال من التوتر تلازم من كان يجد في ذاته تضاربا حادًّا بين عقل يبحث له عن منفذ وطبقة من التكلّس جاءت من هوى درج على اتّباعه منذ زمن عندما جُعل للحرية مربّع ينتهي عندما تبدأ الممانعة.. وقد صارت الممانعة على يديه شقيقة العجرفة وصارت العجرفة شرط الممانعة…
كتب “السيد هذا” تدوينة منطوقها أنّ الإسلاميّين يدفعون ثمن عدم استجابتهم للاقتراح الإيراني (هكذا).. ولو أنّهم استجابوا للاقتراح الإيرانيّ لما كان لهم هذا المصير.. وهو يقصد بذلك مصير الإخوان المسلمين في مصر بعد الذي جرى لهم بسبب الانقلاب العسكريّ.. ((ردُّ الاسلاميين العرب على رؤية الايرانيين كان على لسان مرسي. الاخير أبرق الى بيريز مطمئنا وصرخ في جموع بالآلاف هي بين مهووسة وغبية: لا مكان لحزب الله في سوريا. تقريبا كان يلوح بتدخل عسكري في سوريا ولا أعتقد أنه استشار الجيش في ذلك. النتيجة: لحزب الله كلّ المكان في سوريا وابعد منها ولإيران اليد الطولى في المنطقة ومرسي في السجن والاسلاميون بين ضياع وهوان)) (انتهى كلام الممانع).
خطاب فيه تشفٍّ وفيه وعيد.. لم يرث الرجل صاحب التدوينة عن الإيرانيين حنكتهم ولا تعلّم دهاءهم السياسيّ ولكنّه ورث عنهم شيعيتهم لا بالمعنى المذهبيّ فذلك أمر لا يعنيني منه ولكن باعتبار ما يفيض به خطابه من حقدٍ على المخالف شبيهٍ بحقد الشيعة على من ليس منهم في ما نرى من بعض ناطقيهم.. ومردّ هذا الحقد إلى عقدة نفسية تاريخية قد تحملك على التعاطف معهم (الشيعة) بسبب ما لقوه من معاناة على أيدي الحكّام عبر القرون ولكنّك حين ترى راهن تصرّفاتهم تدرك قبح الاستبداد وأثره في الظالمين والمظلومين على حدّ سواء.. فكثير من سلوك الشيعة السياسي لا يعدو منتَجا مرضيا لقرون الظلم التي شهدوها.
الثورة مباحة إلّا في سوريا:
جاء في تدوينة الممانع الكبير ((اقترح الايرانيون بلحظة حاسمة على الاسلاميين العرب الابتعاد عن سوريا وعدم التورّط في ملفّاتها لأنّ الأمر هناك لا يتعلّق فقط كما توهّموا وأوهموا خلقا كثيرا بديموقراطية وتحرر شعوب من الاستبداد. في سوريا أشياء أخرى ومطبّات وتداخلات لا يضمن الاسلاميون ولا غيرهم تجاوزها بسلام وما حذّر منه الايرانيون في سوريا وأوسع من سوريا كان..)).
لسان حاله: ابتعدوا عن سوريا أيّها العرب فقد باتت حيازة إيرانية تتّخذ منها الجمهورية الإسلامية منصّة لزراعة الممانعة وورشة لتربية المقاومة… سوريا هي لغز لا يملك مفتاحه غير الإيرانيين.. كبعض العلم اللّدنّيّ.. مضنون به على غير أهله.. ثوروا حيثما شئتم.. “وعد الايرانيون بدعم الحراك العربي في تونس ومصر وغيرهما”.. أمّا سوريا فلا شأن لكم بها.. إذ هي الدولة المعصومة التي يُختزن فيها السرّ الأعظم.. وما استبداد بشّار بها إلّا ترجمة لمبدإ التقيّة حتّى لا تنتبه الامبريالية والصهيونية العالميّة إلى ما يُعًدّ في فرن الممانعة.. نخادع الأعداء بالدكتاتورية الدموية حتّى نتمكّن من تحرير الأرض.. ولا بأس من أن يعمّ الدمار وينتشر الموت وينقرض الإنسان.. فبشار وحده كافِ ليكون النبت الذي نحتاج استنساخَه…
يحاول الرجل أن يكون عاقلا في خطابه عندما يستعمل عبارات “اقترح الإيرانيون” و”رؤية الإيرانيين” التي تنحو به منحى التنسيب.. فالاقتراح يُقبل ويُرَدّ والرؤية يؤخذ بها أو بغيرها.. ولكنّه يصدمك بعبارة “لحظة حاسمة”.. ويتحوّل إلى منطق تبشيريّ فجّ كما لو كان صوتا ينطق عن الآلهة.. يصدر عنه ما لا يحتلمه عقل ولا يرتضيه فهم ولا يقبل به ذوق.. كأنّه يشرب من نبع الأئمة المعصومين.. لا رادّ لما يرى.. فمن كان له مقامه نظر بعيني الإله.. وتتداعى عبارات هي أقرب إلى التنجيم يخرج بها من النسبية إلى يقين جازم.. فهو مطّلع على الخفايا ” توهّموا.. وأوهموا.. الجموع هي بين مهووسة وغبية”.. وعارف بما سيكون قبل كونه.. “لا أعتقد”.. “لا أرى خيرا لهذه الجماعات”.. “ينتظرها كلّ السوء ولن تفلت منه مهما نافقت وتزينت وازدوجت ونقدت وراجعت”.. فهو يتوقّع المآلات جازما ويبشّر “الجماعات” بسوء المصير وفق ما تمليه عليه أمانيه أوما أُمر بقوله.. فهو يقرأ الأحوال قبل سماع الأقوال وقبل النظر في الأفعال.. وذلك ما تعلّم في مختبرات الاستراتيجيا التي لا يدخلها غير الراسخين في العلم من الصفوة المنتَجَبين..
آل سعود وآل البيت ولا ثالث لهما:
وحتّى يجعل “السيد” لكلامه قوائم يقف عليها كان لا بدّ من استدعاء مفردة “الآل” التي تلخّص الصراع كما يراه.. فآل سعود الظاهرون في خطابه هم في مقابل آل البيت المُضمَرين.. وإيران في مقابل إسرائيل.. فإمّا أن تسلم أمرك للإيرانيين وآل البيت وإلّا فأنت مع آل سعود وتتبع المحيط الأطلسي ومن أنصار التطبيع وعميل لإسرائيل ومنبطح للامبرياليّة العالميّة.. وتكون المعركة بين عقليتين: عقلية وارثة لآل البيت وقد آلت إلى الإيرانيين دون سواهم واستولت على الخير المطلق واحتكرت الممانعة واختصّت بالمقاومة.. وأخرى وارثة لآل سعود الذين هم من سلالة آل يزيد بن معاوية وهؤلاء هم حماة التطبيع ورعاة الصهيونية.. وأنت، أيّها المواطن العربيّ المسحوق، لا خيار لك غير هذين.. فما لم تنخرط في الطرح الإيراني فأنت آليا في صفّ طرح آل سعود…
إنّ إيران هي التي تحدّد لكم أين تثورون وأين تنتهون.. عليكم أن تنتظروا إذنها حتى ترفعوا صخرة الاستبداد عن صدوركم.. وليس لكم أن ترفعوها ما دام الاستبداد قرين الممانعة وشرطها الذي لا تكون إلّا به.
مراتب الحكم وفق التصنيف الايراني استراتيجي:
((التصنيف الايراني استراتيجي ويرتبط بموقع كلّ رقعة، عربية وغير عربية، في الصراع الدولي والموقف من أمريكا واسرائيل. يدافعون عن المستبد اذا كان في مواجهة سياسات امريكا واسرائيل ولا يدافعون عن ديمقراطية عميلة))
لا تخرج مراتب الحكم حسب هذا التصنيف عن ثلاث:
1. ديمقراطية مقاومة: وهي “الأجمل طبعًا”.. ولكنّ هذا مطلب طوباوي لا مطمع فيه ولا مستقبل لطالبيه.. وأقصى ديمقراطية يسمح بها الطرح الإيراني هي تلك التي تحتكم إلى نظام الملالي استنادا إلى نظرية ولاية الفقيه السياسية..
2. ديمقراطية عميلة: وهذا هو النمط الممكن الوحيد.. وهو ما أوصلَنَا إليه الربيع العربيّ.. “فهل أنتج الربيع العربي ديمقراطية مقاومة؟” الجواب: لا.. وإذن فلا بدّ من اغتيال الربيع مخافة أن تفسد ثمرة الممانعة.. الشعوب العربية ليس من حقها أن تنتفض على حكّامها وليس لها أن تطالب بترف الحرية.. يكفيها أن تأكل الخبز وتنتظر السماء أن تلد مقاومة.
3. مستبدّ ممانع: وهذا هو الممكن الوحيد.. هذا هو بشار الذي يستبدّ لا ليحميّ عرشه الذي ورثه عن والده.. معاذ الله.. إنّما الاستبداد شرط الممانعة وسرّ المقاومة.. فاقبلوا به واصمتوا.. وردّدوا: لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة…
إيران تصدّر الاستبداد بعد أن فشلت في تصدير الثورة:
إيران وهي تحذّر الشعوب العربية من الثورة على حكّامها ما كان ينبغي لها أن تحشر نفسها في شأن عربيّ داخليّ.. وليس الصواب هو “ابتعاد الاسلاميين العرب عن سوريا وعدم التورّط في ملفّاتها” كما عبّر الممانع العربيّ.. لأنّ الأمر هناك لا يتعلّق بالمقاومة ولا بالممانعة كما فهم الإيرانيون وأوهموا الممانعين بضدّه.. إنّ الصواب هو ألّا تمارس إيران وصايتها على الشعوب العربية المطالبة بالحرية والديمقراطية كما لا تريد إيران أن تعترفَ.. لقد ظهرت حقيقة الدولة الإيرانية التي تعمل لنفسها لا لغيرها.. وكان جديرا بها أن تقترح على نفسها ما تقترحه على غيرها.. لقد كان تدخّلها في الشأن السوري باتّجاه قطع الطريق على الثورات العربية المتناسلة.. فهي تستثمر وضعا عربيا هشّا تتحكم فيه دول عربية متواكلة على غيرها متداعية للسقوط.. وتريد أن تفتكّ السيطرة من الدولة العبرية لتكون لها الصدارة في المنطقة.. وذلك لا صلة له بالمقاومة إلاّ على سبيل التوظيف.
لقد تخلت إيران عن تصدير الثورة حتّى تجد لها طريقا إلى إعادة الاندماج في جوارها العربيّ.. وشيئا فشيئا بدأت الثورة تخبو وتظهر الدولة.. ومع الدولة تظهر الروح القومية الفارسية وتتصاعد الروح الطائفية الشيعية.. ولم تنجح الجمهورية الإسلامية الإيراينة في رأب الصدع بينها وبين جوارها العربي لأنّ الملالي اختطفوها باتّجاه قوميّ مذهبيّ.. ويوما بعد يوم تحوّلت إيران إلى نظام قمعي أشبه ما يكون بالأنظمة العربية المجاورة.. بل لقد عملت على استعمال واحد من أشرس الأنظمة العربية وأكثرها دموية.. وليس غير المستبدّين يقبلون بأن يُستعمَلوا.. ولما قامت الثورات العربية وبلغت سوريا التي انتفضت جماهير شعبها ضدّ نظّام الأسد ترجمت إيران تصدير ثورتها إلى التصدّي للثورات العربية وعملت على وأدها.. وكذلك فعل آل سعود الذين خافوا أن تصلهم موجات الثورات.. لقد اجتمع الطرفان على وأد الثورة السورية: هبّت إيران لمساعدة نظام الأسد ضدّ شعبه وهرعت مملكة آل سعود تزرع الجماعات الإرهابيّة لقطع الطريق على الشعب.. فوقعت الثورة السورية بين شرّين قهراها..
واستعاضت إيران عن تصدير الثورة بتصدير القمع.. وكانت إسرائيل حاضرة لتُتّخذ ذريعة تستعملها أشدّ لأنظمة العربية دمويّة لتبرير فتكها بشعوبها كأنّ الممانعة نقيض للحرية وكأنّ القضية أولى من الإنسان.
حزب الله الوظيفيّ:
أمّا عن حزب الله فقد نسخ صورته الأولى وأفسد سيرته التي عرفناها له لمّا كان يتصدّى للعنجهية الصهيونية وكنّا ننتصر له لأنّنا ننتصر به.. ولكن منذ تدخّله في سوريا تجلّت صورته الأخرى إذ ظهر بالفعل ميليشيا وظيفية زرعتها إيران في المنطقة لخدمة استرتيجيتها البعيدة.. لقد استعملت إيران الحزب في مناكفة الدولة العبرية وخاضت به ضدّها حربا كشفت بالفعل هشاشة الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر.. وظهر للعيان أنّ جيشا تقهره ميلشيا لن يكون قادرا على جيش الدولة التي صنعت تلك الميليشيا.. إنّ إيران إذ تعادي إسرائيل لا تعاديها لأجل القضية الفلسطينية ولكن لأجل منافستها على الهيمنة على منطقة الشرق الوسط. وها هي تستعمل الحزب نفسه الذي استعملته ضدّ إسرائيل في اغتيال ثورة شعب عربيّ لم يفعل شيئا غير مطالبته بحريته من نظام تحتلّ الدولة العبرية أرضه منذ 1967 ولم يطلق منذ ذلك التاريخ رصاصة واحدة لاستعادتها.. فهل نراهن على هذا النظام ليتصدّر الممانعة الموعودة؟
إلى حين:
حين يسترجع النظام السوري أرض الجولان قد نعوّل عليه في المساعدة على تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.. أما والحال هذه فلا إيران ولا حزب الله ولا النظام السوري يساوون مواطنا سوريًّا واحدا قُتل في مخفر للشرطة أو وقعت عليه أنقاض بيته لأنّه طالب بحريته..
وحين يسترجع النظام السوري أرض الجولان وقتها نصدّق أنّ المصري المنتخَب محمّد مرسي قد ” أبرق الى بيريز مطمئنا” حسب رواية خصومه السياسيين التي أوردها هذا الممانع في تدوينة له.. ووقتها سنشارك هذا الممانع الكبير تشفّيه في مرسي الذي صار إلى السجن بسبب لعنات الممانعين والمقاومين والإيرانيين وسنلعن الإسلاميين الذين ضاعوا وهانوا حسب قوله.. ووقتها سننضمّ إليه في مطالبته بمحاكمة هؤلاء الإسلاميين حتّى لا نقع في ما حذّرنا منه من خيانتهم التي يستحقّون عليها المعاقبة.
أمّا والحال هذه فندعو هذا الممانع ورفاقه إلى شيء من الخجل.. اخجلوا من شعب قُتل نصفه تحت أنقاض المدن وشُرّد نصفه الثاني في المنافي..
فعن أيّة ممانعة يتحدّث هؤلاء؟
أما كان أولى بهم أن يردّوا نظام البراميل إلى رشده بدل ان يجلدوا خصومه؟
هل ثمة “حماقة” و “غدر” و”خسّة” (والعبارات كلّها من لدن الممانع الكبير) أكثر من تلك التي تسمح لصاحبها بمناصرة رئيس مجرم يسحق شعبا بأكمله ويدمّر دولته تحت ذريعة محاربة الإرهاب والتصدّي للعملاء؟
فما الفرق بين آل الأسد وآل سعود؟
نظامان فاشيّان يتماثلان في الوراثة ويتنافسان في التقتيل…