بشير ذياب
صدام الحضارات، مقولة صنعتها النخب السياسية وأبدعت في ترويجها والعمل عليها النخب الفكرية والثقافية، لا يوجد صدام للحضارات، بل هناك صدام للمصالح، جل الحروب في العالم قامت وتقوم من أجل المصالح الإقتصادية ويقع تغليفها بطابع ديني كي تستمدّ قداستها من قداسة الدين لأن المحرك العقائدي للإنسان من أكثر المحركات قوة وشراسة في ميدان القتال، لذلك إلتجأ الرئيس الروسي للكنيسة كي يغلّف حربه البشعة في سوريا بغلاف القداسة المسيحية وهي براء منه ومن حربه القذرة.
العلاقة بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية لم تخضع إلى الآن لدراسة موضوعية تتمخض عنها أفكارا ومناهج تحدد سياسة إستراتيجية شاملة للعامة، أي أن المواطن المسلم البسيط وبالذات المواطن العربي مازال إلى اليوم يقتصر في الحديث عن الحضارة الغربية على أنها ذلك الغول الذي أسقط دولة الخلافة وإحتل الأراضي المقدسة وغير المقدسة وسيطر على الثروات وعيّن الحكام بالوكالة وبالتالي فهي حضارة معادية يجب مقارعتها “غرائزيا ” وتصويرها على أنها حضارة كفر لا يرجى منها خيرا.
أصحاب هذا التوجه هم في الغالب من التيارات الإسلامية العجائزية الإيمان وإن كانوا حاملين لشهادات عليا في مختلف الإختصاصات، ويقابلهم على الطرف الآخر مجموعة أخرى تدّعي الإنتساب للحضارة الغربية يسمّون أنفسهم بالحداثيين والتنويريين والتقدّميين، ولكنهم لم ينالوا من الحداثة والتنوير والتقدمية الغربية إلا ما خف وزنه وبخس ثمنه، المثلية الجنسية، التعري الفاضح، الجنس والخمر والمخدرات والتفكك الأسري..، أي أنهم “برباشة ” في مصب الفضلات للحضارة الغربية، هم أنفسهم تجدهم يلتقون فكريا وسياسيا مع تيار الدروشة الإسلامية الذي هو بدوره لم يأخذ من الحضارة الإسلامية إلا ما خف وزنه وبخس ثمنه من طقوس الدروشة بأنواعها بمسمّياتها المختلفة، ولن أدخل في التفاصيل.
الحضارة الغربية هي من أقوى الحضارات الإنسانية المعاصرة شئنا ذلك أم أبينا، ولكنها ككل عمل بشري والحضارة في النهاية هي صناعة بشرية لا يمكن أن ترقى إلى درجة الكمال، ولكن في مجملها قدمت للإنسانية من الناحية العلمية في المجالات الحيوية كالطب والهندسة الكهربائية والهندسة الميكانيكية والهندسة المعمارية والعلوم العسكرية بأنواعها وتكنلوجيات الإتصال والهندسة المدنية والعلوم الفلاحية وعلوم الذرة والكيمياء والفيزياء بأنواعها وعلم الفلك وعلم الفضاء وعلم البحار والفلسفة والأدب والفنون والإعلام… وغيرها من العلوم التجريبية والإنسانية التي لا يمكن لي بحكم جهلي ككل عربي مسلم أن أحيط حتى بأسمائها.
هذه الحضارة الغربية الكافرة قدمت للبشرية ما لم تقدمه أي حضارة سبقتها بما فيها الحضارة الإسلامية، وهنا لا يجب أن يفهم من كلامي أني أقلّل من شأن الحضارة الإسلامية ولكن من ناحية العلوم التي ذكرتها لا يمكن المقارنة بين الحضارتين من هذه الناحية، فالحضارة الإسلامية أسّست لبعض العلوم التجريبية أو لجلّها كالطب والهندسة المعمارية وعلم الفلك والرياضيات والفيزياء والفلسفة… وغيرها، وقد إستفادت في ذلك من الحضارات التي سبقتها أو عايشتها، كذلك فعلت الحضارة الغربية، بنت على كل ما أسّسته الحضارة الإسلامية دون أن تنظر إن كانت حضارة كافرة أو مؤمنة، لأن البناة الأوائل للحضارتين الإسلامية والغربية كانوا إنسانيين وموضوعيين وأذكياء، وهذا ما ينقص البناؤون الإسلاميون والعروبيون اليوم، وهم السياسيون والمفكرون والمربّون.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.