#أسئلة_متكرّرة | لماذا يتفاعل قلّة من النّاس مع المحتويات الجادّة، بينما يتفاعلون بالألوف مع المنشورات المتواضعة ؟ |
أسباب عديدة ومتداخلة تؤدي – وفق وجهة نظري – إلى تفاعل قلّة من النّاس مع المحتويات الجادّة، بينما يتفاعلون بالألوف مع المنشورات المتواضعة. وهذه الأسباب هي :
أولا :اختلاف النّاس وأغراضهم من التفاعل في المواقع الاجتماعية.
المبحرون في الشبكات الاجتماعية، يعكسون حالة مجتمعاتهم البشرية سلبا وإيجابا. وتختلف الاهتمامات اختلافا كبيرا بين الأعمار، فبينما تكون فئة المراهقين والشباب تجري خلف نيل الإعجاب الظاهري بالشكل، تجد فئة الكهول تحرص على ربط العلاقات المهنية والاحترافية والاهتمامات العامة، بينما فئة المسنين يجلبهم الحنين إلى الماضي، أو الاهتمام بذويهم من أولادهم وأحفادهم. وإذا أضفنا على هذه التركيبة اختلافات دوائر الانتماء اللغوي والديني والثقافي والسياسي، صار الناس بمثابة رقعة من الفسيفساء المختلفة، نادرا ما تجمع بينهم القضية الواحدة، إلا بما يمسّهم شخصيا في ذواتهم وأسرهم وقراباتهم.
ثانيا : تنوّع طبيعة الاستخدام للمواقع الاجتماعية
المواقع الاجتماعية ليست أداة واحدة في عيون الناس. فأعداد منهم يستخدمون المنصات الاجتماعية والتطبيقات من أجل حبّ الظهور والبروز، مدفوعين بحاجة نفسية لها صلة بتاريخهم الشخصي وبالبيئة المحلّية. وأعداد منهم يستخدمون مواقع التواصل من باب “شوفوني”، أي : انظروا حياتي كيف هي في مأكلي ومشربي وملبسي وبهجتي وحلّي وترحالي، لا يهمّني شيء إلا إبراز نمط حياتي لأن في ذلك إشباع لنهم نفسي للتقدير والمجاملة والثناء. وأعداد منهم يستخدمون المنصات بمثابة مناحة يومية، ينشرون السّخط والتبرّم والتذمّر والإحباط والأدعية التي تثبّت لهم سوداوية حياتهم وكلام الفلاسفة الذين يعكسون أمراضهم النفسية ويجعلون منها حكمة الدّهر. وأعداد منهم اتخذوا في حياتهم قضايا مصيرية يدافعون عنها ويذبون عنها، فتكون تلك القضايا هي ديدنهم لا يبتعدون عنها، فتراهم يستغلون كل فرصة للتذكير بها وحث الناس عليها، وأعداد تراهم ينغمسون في ذاتيتهم وينقطعون عن الناس ولا يهمهم سوى نشر آراء ونظريات وأفكار واهتمامات، ولا يلقون بلا لمن اهتم أو اغتم بها. وعلى الجملة، يوجد طيف المجتمع الحقيقي داخل المواقع الاجتماعية، ولا يختلفون عن الحقيقة إلا في طريقة عرض أفكارهم واهتماماتهم.
ثالثا : غلبة البعد الترفيهي عند استخدام منصّات التواصل عند العرب،
لقد لاحظت بعد سنين طويلة من التجربة، أن نسبة لا يستهان بها من العرب تستخدم منصّات التواصل الاجتماعي لأجل الترفيه والترويح عن النفس ! وهذا من بين الأسباب التي تجعل الألوف المؤلفة تبدي اهتماما كبيرا بنشر صورة غريبة أو شريط غير مسبوق، أو حادثة خارقة، أو أي شيء يخرج عن المعتاد، مع سيول من التعليقات الضاحكة والتفاعلات غير الجادة، بما يعكس رغبة كبيرة في الاستمتاع على معنى الترفيه، هروبا من الواقع الحقيقي الذي عادة ما يكون عند هؤلاء رتيبا، قاسيا. وإذا نشر إنسان محتوى فيه تفكير وإعمال النظر وقياس الأشباه والنظائر، فهذا يستوجب جهدا ذهنيا من المستخدمين، بينما فكرة الترفيه تقوم على : روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة !
رابعا : منصّات المواقع الاجتماعية أضحت سلطة شبه مستقلة وازنة.
لقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي بأنواعها بمثابة سلطة جديدة لها ثقلها الثقافي والسياسي والمعرفي، ويعرف تأثيرها بما تتيحه من تبادل لحظي للمعلومات وسرعة انتشارها وميل المستخدمين إلى التصديق أكثر من تصديق القنوات الإعلامية التقليدية. وتسببت خذها المواقع في بروز سلطة خامسة موازية لسلطة الإعلام والدولة، ومنها انطلقت الانتفاضات الكثيرة التي تجري في العالم وآخرها انتفاضة فرنسا وانتفاضة السودان، مما جعل هذه المنصات تكتسي بعدا سياسيا خطيرا على التكتلات التقليدية التي تمثلها الأقلّيات المتساندة التي تحكم العالم الْيَوْم.
خامسا : منصّات التواصل الاجتماعي يمكن ترشيدها لكي تقلل من تغوّل وسائل الاعلام التقليدية
وذلك أن وسائل الإعلام التقليدية (وهي وسائل إذعان) في غالبيتها العظمي يسيطر عليها المال الفاسد ومصالح الدول القومية، والمواد الإعلامية المقدمة تكون بالضرورة موجهة ومحنّطة بأفكار تحتية هدفها بسط التحكم في العقول وتوجيه الناس كالدواب والقطعان لكي يدخلوا في أنساق المصالح الكبرى للشركات والأفراد والحكومات المتساندة عالميا ضد ضعاف الحال والمغبونين.
ولا يتأتى هذا الترشيد إلا في المجتمعات الحديثة المنسجمة والواعية والمستوعبة لما يجري حولها في العالم من صراع وألاعيب. أما المجتمعات الجاهلة التي تتعرّض لغسيل دماغ يومي عبر إعلام يكرّس فيها الاستبداد والاستبلاه، فتحتاج إلى جهود جبّارة لرفع غشاوة الجهل عن عقولها وتبصيرها بمصلحتها الحيوية. ومن ذلك ضرورة استخدام العقل الذي أكرم الله به الإنسان، ومن خلال العقل الواعي يهتدي العدد الأكبر إلى حقائق كلّية شاملة بدل التعاطي مع المنصات الاجتماعية لمجرّد “شوفوني” أو للتعويض عن حرمان عاطفي واجتماعي، أو للتعبير عن بؤس فكري وفقر ثقافي مدقع. ولعلّ صفحات كثيرة جدا تنشط في هذا الاتجاه من أجل تركيع الناس عبر بثّ ثقافة التلفزات المموّلة من طرف الأقلّيات المتساندة، سعيا إلى تأبيد غسيل الأدمغة.
ومهما يكن من أمر المنصات الاجتماعية، ففيها لمستقبلنا هامش مهمّ لكسب أمّ المعارك التي هي :#معركة_الوعي !
✍🏽 #بشير_العبيدي | ربيع الثاني 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.