سنتي أكبر مني
كل عام وأنتم بخير 🌺
وأنا أنفض عني بقية ساعات السنة أشعر أنّ سنتي كانت أكبر مني. أكبر من انتظاراتي وأمنياتي. وأكبر من مخاوفي وخيباتي أيضا. وهي ليست شخصيّة في الغالب. إنّها أمنيات الإنسان وانتظاراته، ومخاوفه وخيباته هنا، على هذه الأرض. في الزمن الذي يتراكم كرقائق الملح أو كنهر متجمد نسعى دائما إلى أن نفعل شيئا ما كأن نحدث ثقبا صغيرا في الجليد كذلك الذي يحدثه صياد السمك القطبي أو شرخا في الرقائق كذلك الذي تحدثه أظافر من يطلبون النجاة، ولكنّ ما نفعله ليس سوى خدش صغير لا يرى والتراكم الرهيب للأحداث التي تصنع الزمن تطوي دون هوادة كل شيء.
كلّ الأحداث التي وقعت، كلّ الموت الخاص وكلّ الموت العام، كل السياسات والمآلات، كلّ السريالات التي عشنا، أكبر مني. ولكن في الخضم كنت أخدش ليبقى أثر ما في كلّ ما يحدث ويتراكم بعنف.
من سنتي الأكبر مني أخرج بكتاب جديد أردته ثقبا في نهر زمني المتجمد وخدشا في رقائق الملح بقلمي الذي يطلب النجاة من ملوحة لا تطاق. كان الأمر يحتاج صبرا طويلا كصبر ذلك الصيّاد القطبي الذي يقف ساعات في البرد اللاذع. لا تقلّ الكتابة صبرا. إنّها الوقوف طويلا في البرد اللاذع لاصطياد فكرة. مع كلّ كتاب أزداد إجلالا لكلّ من كتبوا للإنسانية. هؤلاء الذين ارتجفوا طويلا من أجل دفء أكبر في العالم. هؤلاء الذين لم يجمدوا في الجليد ولم يتحنّطوا وظلّوا بروح التمرّد على كلّ ظلم يطال الإنسان. هؤلاء المشرقين بوهج الأفكار الخالدة. الممتلئين بدفء القلب. الأحياء بالمعنى الإنساني. ومع كلّ تجربة أزداد يقينا أنّ الكتابة فعل أعمق ممّا نعتقد. إنّه زلزلة صغيرة لا تغيّر من نكتب لهم بقدر ما تغيرنا أوّلا. أخرج من سنتي الأكبر مني امرأة أخرى غير التي كانت عند بداية الكتاب. لا النظرة إلى العالم هي نفسها ولا حتى النظرة إلى ذاتي. ولا النظرة إلى الكتابة. كتابي الجديد سأهديه لأطفال سوريا واليمن، المنسيين في الشتات وفي الحسابات، والضاحكين في موتهم من “موت” بعض “مثقفينا” الذين تحنطوا في لحظة زمنية متجمدة، عند أقدام تماثيل الطغاة، وكهوف العرافين والسحرة، وباعة المخدّرات.
في سنتي الأكبر مني أخرج برغبة أكثر في القراءة وأزداد شعورا كلّ مرّة بأني لا أغبط في هذا العالم إلا من يقرأ أكثر مني. ولكي لا تكون سنتي أكبر مني بكثير وأكبر من أمنياتي تطفّلت على عالم الفيزياء بمساعدة ابني واقتحمت عوالم مجهولة كانت ضرورية لبناء روايتي. كنت أركض في تلك العوالم حافية وذاهلة. وكان ابني يقول لي: أعيدي الكرة يا ماما حين لا تفهمين. فأفعل. وخرجت منها بإيمان عميق بالجهل وبأنّ الفتوحات العلمية هناك في الضفة الأخرى يومية وبأنّنا مازلنا في غرفة الإنعاش الحضاري لزمن آخر. في انتظار مغادرة الغيبوبة العلمية والمعرفية والاعتقادات الواهمة.
من سنتي الأكبر مني أخرج أيضا بفرح خفيّ خجول بأني كتبت كلّ ما أومن به بكلّ وضوحه وغموضه وبكلّ أخطائه وتناقضه وبكلّ أحزانه الغريبة وأفراحه العفوية، رغم يقيني بأنّ قول بعض الأشياء ورجّ بعض اليقينيات مجلبة للغضب والاستياء، وبأني حاولت قليلا ما استطعت أن أكسر جبل الجليد بين ضدّين على هذه الأرض لا يلتقيان ولا يريدان الالتقاء. توقّفا عند لحظة تاريخية متجمدة وظلّا عالقين فيها. ولكن أصاب في كثير من الأحيان بفرح طفولي حين يجتمع من لا يجتمع ولا تكون الحرب. كان يقودني يقين بأنّ كثيرا من المعارك وهمي وأنّه كان يمكن أن نكسر الجليد بخلافات أقل وعدوانية أقل وأنّنا نحتاج الكلام بحريّة أكبر ممّا نتوهم وأيضا نحتاج إنتاجا أكبر لمشاريع أدبية وفكرية مغايرة قادرة على زلزلة هذا الواقع المتيبس فكرا وإبداعا.
سنتي الأكبر مني أخرج منها بشبه يقين بأنّنا لا نفعل الكثير ممّا يجب أن نفعل لذلك تظلّ كلّ السنوات أكبر منّا وبأنّنا نترك هذا المسمّى زمن وهو ليس بالزمن بكلّ أثقاله وأحداثه يجرّنا حيث يشاء ويستدرجنا حيث يشاء لندرك بعد ذلك أنّ كلّ شيء يسير نحو الانقضاء وبأنّنا بعد رحيل العمر كنّا نطارد خيط دخان..
سنتي أكبر مني. عشت فيها أحزانا كبيرة. أكبر مني. خرجت منها بإيمان أنّ الحزن لا يقتل. ولكنّه يظلّ في الداخل. لحظة مجمّدة إلى الأبد. وعشت أفراحا مبهجة. وأدركت أنّ الحزن والفرح يتجاوران ويتصادقان ويلتقيان.
وسأدخل العام الجديد بمرارة أقل (حذفت فعلا المرارة في السنة المنقضية وصرت أشعر أكثر بحلاوة الحياة😄) وبعزم أكبر على الحفر أكثر في نهر الزمن المتجمد لعلّ النهر يجري.. بزوارقنا.