Site icon تدوينات

“المولد” و “نُوَالْ”… وحوار الدَّرْوَشَة والعَرْبَدَة

بشير ذياب

ماذا يقول الآباء والأمهات لو سألهم أبناؤهم من نحن ؟ وكيف إستطعنا أن نجمع بين متناقضات حضارية لا يمكن أن تجتمع في قلب واحد ؟ كيف يمكن أن يحتفل المرء بعيد ميلاد خاتم الأنبياء والرسل ويجتهد الفقير قبل الغني في توفير “الزقوقو” والحلويات والفواكه من أجل ثريد لا علاقة له بالرسول وبمحتوى الرسالة يستغله المتحكمون في السوق لمزيد النهب والإيغال في الإثراء غير المشروع، وبعدها بأسبوع يحتفل بعيد ميلاد المسيح بالمرطبات الفاخرة وغير الفاخرة وبالخمور الفاخرة وغير الفاخرة وإن لزم الأمر بـ”الكول” في موجة من التقليد الأعمى وجمع بين متناقضات حضارية إن دلّت على شيء فهي تدل على غياب المعنى في هذه الإحتفالات العشوائية، وحضور الشكل أو القشر الخارجي لأسوإ ما علق بالحضارتين الغربية والعربية من طقوس عربدة في الأولى ودروشة في الثانية.

هذا الإنفصام المستفحل بالمجتمع التونسي خصوصا وبالمجتمعات العربية والإسلامية عموما لم يكن عفويا ولم يأت في سياق التطور الطبيعي لحوار الحضارات لأن ما يدور اليوم بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية هو أبعد ما يكون عن الحوار، هو إكراه على الذوبان، أو تذويب قسري لهذا في ذاك بوسائل تقنية وعلمية وتكنولوجية وكذلك بوسائل تربوية وثقافية وسياسية مدروسة بعناية وتتجلى مليا في أداء النخبة الثقافية والفكرية التي أسقطت عنها ورقة التوت وكشفت عن مدى تشبّثها لا أقول بالحضارة الغربية لأنها حضارة حية ومتحركة بل تمثل في جزء كبير منها تناغما إنسانيا مع كنه الحضارة الإسلامية الخالصة البعيدة عن الدروشة والتطرف، بل بالنبش في مزابل الحضارة الغربية ورذائلها التي يريد علماؤهم التخلص منها ومن آثارها السلبية على الأسر الغربية والناشئة والمجتمع الغربي عموما الذي أصبح يعاني من مخلفاتها الإجتماعية المدمّرة.

أنا لست ضد الإحتفال بالمولد النبوي الشريف، ولكن أن يختصر الإحتفال في صحفة العصيدة في غياب تام لروح ومعنى هذه المحطة التاريخية الفارقة في حياة الإنسانية فهذا عبث ولهو، يجب أن ندرك أولا أن المولد النبوي هو محطة ثقافية بإمتياز هو حركة ثقافية يجب أن تواكب هذا الفلكلور الإستهلاكي الذي يكون مركزه عاصمة الأغالبة، حركة ثقافية وإعلامية تبرز معنى الرسالة التي بعث من أجلها الرسول الكريم، هذه الرسالة تأخرت عن مولده بخمسين عاما، وهي التي أعطت لمحمد ابن عبد الله قيمة مضافة لتخرجه من أحد عرب قريش إلى أسمى وأرقى بشر وجد على هذا الكون، وغياب هذا المعنى ونحن نحتفل بالمولد النبوي هو تغييب لهذه الرسالة السامية وهو بالتالي مجرد إحتفال بمولد محمد العربي القريشي وليس إحتفالا بمحمد الرسول الكريم ورسالته العالمية المبنية على تحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وتغييب للقيم السامية التي جاء بها الرسول الكريم كالحرية والعدل ومكارم الأخلاق وبر الوالدين وإغاثة الملهوف… وبإختصار شديد هي روح الحضارة الغربية المتمثلة في النظام الديمقراطي ويتجلى ذلك في السلوك الحضاري للمواطن الغربي في الطريق العام مترجلا أو في سيارته وفي المستشفى وفي الإدارة وفي مركز الأمن وفي الحديقة العمومية… هذا السلوك الحضاري له مستنداته من الكتاب والسنة في رسالة محمد، وتكريس هذا السلوك على أرض الواقع هو الإحتفال اليومي بمولد الرسالة وبالتالي الرسول الكريم، أما صحفة العصيدة فرينة كانت أو فستق أو زقوقو فإنها حلقة في دورة إستهلاكية آخر حلقاتها دورة المياه، أما طقوس الدروشة المحنّطة التي تبث في الفضائيات فهي نوع من التشويش الذهني الممنهج يمارس على الناشئة والـ”تشليك” الممنهج للمناسبات الدينية عموما.

أما بالنسبة للإحتفال بـ “كريسمس” ورأس السنة الميلادية التي أختير لها تسمية سياسية تبرّر تسويقها وهي رأس السنة الإدارية، فمن حيث المبدأ لا يمكن الإعتراض عليها في عالم مفتوح لا نملك فيه من أدوات التحصين الثقافي والحضاري إلا ما يزيدنا ذوبانا وسيولة في عالم الإرادة الغربية المتوحشة ولا أقول الحضارة الغربية، صورة ملفتة للإنتباه تم نشرها في السنة الماضية في فضاء التواصل الإجتماعي تتمثل في راهب بوذي يلبس لباس “نوال” ويتجول في الشوارع إحتفالا برأس السنة الميلادية، والكل يعلم مدى إنغلاق البوذيين وتقوقعهم على أنفسهم، فالمشكلة إذن ليست عربية أو إسلامية، مشكلة غزو فلكلور الحضارة الغربية وفضلاتها القذرة أصبح ظاهرة كونية بحكم العولمة، هي “رقمنة للأذهان” عبر الغزو الإعلامي ووسائله المتطورة كالقنوات الفضائية الموجهة الناطقة باللغة العربية أو بالأفلام والمسلسلات الغربية ذات المواضيع المختلفة، قد لا أكون مبالغا حين أقول أن هذه القنوات والأفلام تستعمل أنواعا مختلفة من الخدع البصرية على مستوى الصورة للتطبيع مع بعض المظاهر المخلة من الناحية الإجتماعية للعرب والمسلمين كالمثلية الجنسية والخيانة الزوجية والتخنث أو للتطبيع مع بعض المظاهر الفلكلورية الأخرى على غرار “نوال، شجرة الأرز…”، هذه التقنيات تمت تجربتها بنجاح في تونس في الإنتخابات الأخيرة حين أدرجت صورة لشعار حزب نداء تونس في أحد التقارير الإخبارية للقناة الوطنية ولا ندري إن تم تعميم تلك الطريقة للدعاية على بقية تقارير القنوات التلفزية الأخرى، وإذا كانت هذه إحدى القنوات لدولة من دول العالم الثالث لجأت لتمرير أجندة سياسية داخلية للخداع البصري التكنولوجي فكيف بالأجندات الخارجية لدول هي من أحدثت صناعة الخدع البصرية والسياسية والثقافية.

Exit mobile version