صيدنايا …

علي المسعودي

دخل يوما مثقف مزيّف على سيّده وقال له: هل أدلّكم مولاي على دين جديد يحفظ سلطانكم ؟ اجعل الأرض التي تملكها قدس الأقداس فيجعلون منك إلاها معبودا إلى الأبد.
ثم كتب منظر السلطة في موسوعته العلمية التعريف التالي: الوطن هو المكان.
كان كلبا للحراسة، كلبا وفيّا صادف أنه قرأ بعض الكتب.
ومنذ ذلك اليوم، يموت الناس جوعا دفاعا عن الوطن، ويموتون ظلما دفاعا عن الوطن، ويُحشرون إلى الموت جنودا دفاعا عن الوطن.
لقد أصبح الوطن دينا جديدا، نصوصه المقدسة هي حدود ومعابر، قصور للسيادة ورمز في العلم..
ومولاي (صاحب السلطة والأرض) إله يُفتدى.
واختُرِعت مفاهيم الولاء والخيانة، واختُرِع نشيد الرعيّة في كل عصر: نموت نموت ويحيا الوطن !.
وعُبِد الثالوث المقدس: الله والحاكم والوطن !

كانت الخدعة بسيطة: بما أن المكان يُحيل دائما على الملكية الفردية فلنجعل الوطن ملكية خالصة للسلطان باسم المقدس، ولنجعل الرعية جزء لا يتجزأ من هذه الملكية.
أما معنى الوطن الحقيقي الذي أعدمه كلب الحراسة في غفلة من الجميع، فلم يكن أبدا مقصورا على أيّ مكان.
الوطن الحقيقي هو الآخر، هو انفتاح وتواصل، هو وجودنا مع الغير وليس نفيا له… هو بنية علاقات، تراكمت خيوطها بفعل التاريخ والعيش المشترك.

الوطن هو دفتر إحصاء النفوس. والدفاع عن الوطن هو دفاع عن وعي جماعي، وعن معنى العيش المشترك… ولا يكون دفاعا عن الأرض إلا استتباعا، فهي بلا قيمة إذا تخاصمنا حولها أو عليها.. فكم من وطن ضاع، بعد أن أضاع ساكنوه الإيمان ببعضهم وادّعى كل منهم، مثل طفل صغير، احتكار ملكية هذا الوطن.
من هنا نشأت عقلية الاستبداد، بتحريف للكلمة وتحريف للمقدّس من أجل تثبيت كرسيّ فوق أجساد مكوّمة من الأموات الأحياء.
ومن هنا نشأت عبادة الأشخاص، فكلما صعد سلطان إلى العرش أحيط بكل هالات البطولة، وأصبح فوق الأنبياء… وحكامنا في الواقع يرون أنفسهم دوما في السماء… وبرغم الخراب الذي تركوه، مازالت أوطانهم نكرة دون ذكراهم، ومازالوا برغم كل الدمار، في عيون أتباعهم، المثل والاقتداء…
من أجل ذلك كان العرب حالة فريدة بين الأمم.. فمنذ اقتحام الباستيل أصبحت كل الدول تعرّف بمدارسها إلا دولنا فبطاقة تعريفها سجونها..
فمن أبو زعبل والعقرب وطرة إلى صيدنايا وبوسليم إلى الحائر وأبو غريب، رسم قادتنا الأنبياء معنى الوطنية على أجساد رعاياهم بقلم دام مغمّس في دواة الظلم والتعذيب.

•••

برغم أن فواصل عديدة من خطابه تبدو بلا معنى أو عصيّة على الفهم، كنت أتابع مداخلات بشار الأسد في القمم العربية بشيء من الشغف… ربما لأنه حسب ظني الساذج آنذاك، كان نشازا في النظام الرسمي العربي.. إلى أن قامت الثورات، وانتقل شغفي اثرها إلى أهازيج المتظاهرين في حمص وحماه وحلب.. وبدا أن الشبل ابن وفيّ “للأسد”، وأن الشّبه لا يُظْلَم فيه أحد.. فانتُزِعت حنجرة ابراهيم قاشوش مطرب الساحات من حلقه وأُلْقِي ببقيّته في نهر العاصي مثل حجر يُلقِيه ولد.
وكان علي فرزات رسّاما، يسخر من نفسه ومن وجع البلد، فضربوه مبرّحا وكسروا منه أصابع اليد !
واستمرت الثورة -عدا ذلك- صورة ورديّة بديعة.. وكانت عرسا للحرية لم يشهد العالم له مثيلا..
غير أن أعرابنا من أصحاب العِقَال، عليهم لعنة الثوار في درعا البلد، ما وضعوا يدا في برميل من براميل الثورة الوهّاجة إلا دلقوه.. وسرعان ما اختفت الثورة في الساحات، واختفت لوحات ابراهيم لينطلق بدلا عنها الرصاص.. وكان رصاص حاكم دمشق بدون كاتم صوت. فأعاد رسم لوحات بيكاسو بكل فن.. وكان أبشعها لوحة سجن صيدنايا.
هكذا ماتت ثورة في الشرق وولد سفاح بألقاب بطل !.

كيف يمكن لأحدهم أن يؤمن بأي حرّية، فردية كانت أو جماعية، وهو أصمّ وأعمى عن آهات المساجين وعن كثبان الأجساد البشرية المكدسة في زوايا سجن صيدنايا ؟
كيف لفكر نخبوي أن يكون كذلك وهو لا يرى الملايين ممن توسّدوا تراب وطنهم في مقابر جماعية أو تنفّسوا الهواء في مقابر المخيمات في كل هذا الشرق اللعين ؟.. كيف له أن لا يرى سوى مائة وأربعين سائحا قدموا من اللاذقية لأنه لم يعد هناك مكان مبهج للاحتفال بخراب لا تمحوه السنون ؟

المثقف المزيف عندنا، قرأ كل فلسفة الأنوار، وقرأ عن كل الثورات منذ صاحب الحمار… ثم عاد يكتب نصوصه المقدسة عن الوطن التراب، وعن الأمير الملهم ومعجزة السلطان !!!.

Exit mobile version