عرفت بلادنا طفرة في تكوين الأحزاب، بعد أن فتحت الثورة المجال السياسي الفعلي الذي ظلّ موصدا لست عشريات، وكان لعديد من هذه الأحزاب إسهام في المرحلة الانتقاليّة. وصارت الحياة السياسية الجديدة مجالا خصبا لرصد ظواهر سياسية لم تكن لتطفو في ظل الموات السياسي الذي فرضه الاستبداد.
ومن الظواهر التي عشنا ظاهرة انقسام الأحزاب وتشظيها، ومثّل نداء تونس واجهة السيستام السياسية الظاهرة في أنصع صورها. وقيل يومها إن السبب هو الاختلاف على المسروق، بعد الوصول إليه، ولكن اتساع الظاهرة لتشمل جل الطيف السياسي وتغطّي سنواتنا الثمانية، يُحفِّز على الظفر بما يمكن اعتباره “كليات حزبيّة”. وبدا لنا أنّٰ ما أسميناه “السيستام” يمثّٰل أعدل الظواهر قسمة بين الأحزاب.
لا يجد المتابع للخلافات داخل الأحزاب السياسية في بلادنا فروقا تُذكر بينها، ويستوي في ذلك أحزاب الحكم وأحزاب المعارضة. وهي خلافات تدور في مجملها حول الأشخاص والمواقع والعصبيات العائلية والجهويّة. حتى اللغة الواصفة للخلافات تعجز عن إخفاء هذه الحقيقة رغم محاولات “الارتقاء” بالخلاف، بواسطة “المعجم الديمقراطي” الذي ينزل، في سياق الاشتباك الحزبي الداخلي، إلى أدنى طاقاته التعبيرية.
لم نظفر، فيما قرأنا من نصوص في الموضوع بخلافات عميقة تتصل بهوية الانتظام السياسي، الثورة والانقسام الاجتماعي، المرجعيّة السياسية والأولويات الوطنية، علاقة السياسة بالسوق، شروط بناء المشترك الوطني…الخ.
خلافات لاتخرج منها بمعنى، سوى أنّٰ السطحية والضحالة والكسل الفكري تغلب على طبقة سياسية مُجهدة عاجزة عن تجديد نفسها.
من المستويات المؤسسة للضحالة الطاردة للديمقراطيّة وروح التشارك والتعاون والكفاحية في الأحزاب “بنية السلطة والقرار” فيها، وهي بمثابة القاسم المشترك بينها، وملخّص هذه البنية أنّٰ “السلطة الفعلية” (بسبب ملابسات عديدة قد تتعلّق بالنشأة وبمنعرجات التجربة الحزبية، وبموقع الحزب) تكاد تنحصر في عدد محدود جدّااااا، قد لا يتعدى أحيانا الشخصين. وتكون هذه الدائرة مصدر القرار الفعلي وصاحبة الكلمة النهائية، ولا قيمة حينئذ لأن تُسند المناصب القيادية التنفيذية والتشريعية الأولى في الحزب كلها إلى مناضلين من خارج هذه دائرة، فهي لا تعدو أن تكون واجهة شكلية.
كَأَنَّ “بنية السلطة الفعلية” المتحدث عنها هي استنساخ واستبطان (ربما لا واع) لفكرة “السيستام”، فيصبح لكل حزب “سيستامه”، أما “الأمانة العامة” و”المكتب السياسي” “وعضوية اللجنة المركزية أو المجلس الوطني أو الشورى” فقد يتداول عليها عديدون وهم جميعا في حكم “صبابة ماء على اليدين”، ومجرّٰد واجهة ويد عاملة، وهي دون الرفاقية العزيزة.
تأسيس الديمقراطية والمواطنة والكفاح الاجتماعي وخدمة الناس يمر عبر الوعي بـ”السيستام” وواجب تفكيكه (ويكون هذا نتيجة وعي جماعي نافذ) داخل الأحزاب وخارجها، وأنّ يكون إفراز القيادات على ضوء منوال “خادم القوم سيّٰدهم”، بغاية تجذير الأفقية والتشاركية والسلوك الديمقراطي أو التنافس في تمثّٰل القيمة وتجسيدها في السلوك الخاص قبل انتظارها من بقية المناضلين.
هذه إحدى “الكليات الحزبية”، وقد يساعد البحث بقيّتها على وضع لبنة في حياتنا الحزبية وفكرنا السياسي وتجربتنا الديمقراطية.