لقاء الباجي والغنوشي والزوز لُخْرين
بين خيارين: تواصل الانتقال الديمقراطي المتعثر أم استقرار عند “الفوضى المنظمة”؟
لقاء الباجي والغنوشي والشاهد والطبوبي في قرطاج اليوم، هو في حقيقته لقاء بين الباجي والغنوشي.
فالطبوبي ليس أكثر من مساعد للباجي أهم واجهة سياسية للسيستام حاليا، ومن خلال الطبوبي يحاول لي ذراع الشاهد ووزيره النوفمبري. والشاهد عند البعض ليس أكثر من مساعد للغنوشي، وهذا صحيح جزئيا، ولكنه يبقى ولد السيستام. والسيستام من خلال عصاباته حاطّ ثقله مع “الأسوأ ” ولكنه حاطّ “يديّة” مع الشاهد، وكثير من “رجال” الشاهد كانوا صنيعة كمال.
لقاء اليوم سيحدد مستقبل منظومة الحكم، والحكومة، وشروط تواصل المسار الديمقراطي وتأسيس الحرية، ومن بين هذه الشروط (في تقديرنا) النهضة.
الباجي لم يقبل هزيمته في سياق التحوير الوزاري، والذي أنهى انقلابه على النظام السياسي المقرر بالدستور (نظام شبه برلماني، حوله إلى نظام رئاسوي). الباجي شبيه بذلك الرجل الذي قبل العراك بشروط (صراع صافي، مصارعة) ولكنه عندما “لُطِخَ” دوّٰرها “عضّان، وحجر، وبارات حديد. وكان سلوكه هذا موجها إلى النهضة أساسا، فحرّك أدواته جميعا وفي مقدمتها الوطد بوليس بن علي الإيديولوجي الذين أصبحوا، بعد الثورة “الأمن الوقائي” للسيستام، فكانت قصة “التنظيم السري” بالإضافة إلى “تقرير بشرى”، وتم تجنيد إعلام اللوبيات في هذا الإتجاه، وكانت النية واضحة في ركوب جانب من الاحتجاجات الاجتماعية الحقيقية وتوجيهها، وصنع أخرى مفتعلة في سياقها بغرض تشويهها وتوظيفها في الهدف السياسي المباشر: إسقاط حكومة الشاهد. والباجي والطبوبي يعلمان أن الإحتجاحات الأصيلة غير قابلة للركوب، وكانت رسالة قطاع الأساتذة واضحة: النهضة الغبية لم تستوعب، من خلال بيان شوراها المناهض لتحرك القطاع الضخم، أن مثل هذه التحركات الجذريّة لا تتعارض مع “مصلحتها” ليس فقط في “صراعها بالفعل” مع الباجي، ولكن في “صراعها بالقوة” مع الشاهد، ومع تأسيس الديمقراطية المرتبط بهزيمة السيستام التاريخية.
رد فعل الباجي تجاوز المحلي، من خلال تغيير علاقته بالثورة المضادة (أداتها في المنطقة السعودية والإمارات) وانتهاء “مقاومته” لإغرائها، فكان إستقبال المنشار، وتحرك وزير خارجيته على الجبهة السورية (حط الطائرة السورية بالمنستير). وهو تحرك يتزامن مع تحولات في المشهد السوري يهمنا منه “تبدّل” الدور الإماراتي السعودي (إعادة فتح سفارة الإمارات بدمشق)، وهو الدور الذي لا يخرج عن استراتيجية اليمين الأمريكي الشعبوي والصهيوني (تدمير الدولة والثورة في سوريا)، وهي الإستراتيجية التي يفهمها السبسي أكثر من “شبيحتنا الوطنية” الذين ابتهجوا بغبائهم المعهود بهبوط طائرة بشار بمطار المنستير.
الباجي يتحرك على هذا المحور الأمريكي الصهيوني بأدواته العربية، دون إغفال الموقف الفرنسي المناهض لديمقراطية تونسية بشروط محلية.
رشح هذه الأيام أنّٰ السبسي أبلغ تهديدات جديدة إلى النهضة منها ملف تمويلها، وملف تسفير الإرهابيين، وتهمة تزوير الإنتخابات الأخيرة، تهم تضاف إلى التهم السابقة، في إطار حرب الملفات المستعرة. بل وأنه يقدم للنهضة مهلة محددة للمضي في تنفيذ التهديدات، إذا لم ترفضها النهضة وترفع يدها من الشاهد وتقبل بتغييره بما يُرضي الباجي وأدواته مختلفة المشارب.
لذلك سيكون لقاء اليوم حاسما بالنسبة إلى الجميع، ونرى له إحتمالين لا ثالث لهما:
1. مواصلة النهضة لنهجها الحالي وتواصل علاقتها بالشاهد، ورفضها التنازل للباجي ولهذا نتيجتان:
أ. هزيمة الباجي، بما يعني أنّٰه لن يكون هو وابنه في الصورة بعد 2019، وتواصل الإنتقال الديمقراطي متعثرا: تخطي آثار الإحتجاجات الإجتماعية ولكن مع تواصل الأزمة المالية الإقتصاديّة وتداعياتها العديدة. والسيستام يبحث له عن واجهة سياسية جديدة مع الشاهد ومحيطه، وهو ما سيرشح “لـدعكة” فاصلة بين الشاهد والنهضة، لعلها آخر معارك السيستام بوجهه الحالي، وقد تنتهي معها المرحلة الإنتقاليّة.
ب. نجاح الباجي في إزاحة النهضة، بسبب رفضها لشروطه في لقاء اليوم، عن المشهد من خلال ما سيثار من ملفات في شأنها ويتحقق بذلك هدف كل خصومها من أدوات السيستام (الوطد، نجيب الشابي، آفاق، بعض من مازال في طريقه إلى السيستام من الأحزاب،،،الخ). وسينتج عن هذا الوضع ما نسميّه “الفوضى المنظمة”، وهو وضع يختلف عن الإستبداد لاستحالة شروطه بالحفاظ على منسوب مهم للحرية، يشبه ما عرفته إيطاليا في الثمانينيات (حكم المافيا)، أو ما يعرفه في السابق واليوم لبنان خاصة، ويمكن للبلاد أن تبقى بدون حكومة لأشهر عديدة، وتتواصل مؤسسات الدولة الأساسية وحركة الإقتصاد ورأس المال، وهذا الوضع هو الأنسب للسيستام ولوبياته ومافياته لتحقيق أوسع المصالح، ونحن نشهد اليوم شيئا من هذا حيث تتمدد العصابات إلى مفاصل الدولة مما يفقد الحكومة وكل أداة تنفيذية أي جدوى (الحكومة اليوم تعجز حتى عن تصريف الأعمال، فعلا هي فاشلة لأنّها مشلولة وبعض كوادرها يأتمر بأوامر مراكز القوى)، فالكلمة الأولى والأخيرة لعصابة السراق التي أصبحت عصابات. وصارت المؤسسات المنتخبة أقرب إلى الشكلية، وصارت بعض الهيئات الدستوريّة أقرب إلى النكتة الماسطة والمسرحية رديئة الإخراج (هيئة مكافحة الفساد ورئيسها البائس).
2. رضوخ الغنوشي لشروط الباجي (شروط السيستام وفرنسا والإمارات)،
وستكون النتيجة هي نفسها: “الفوضى المنظمة”، وقد تكون النهضة قوة بعشرة مقاعد في البرلمان، وقد تحل في هويات حزبيّة أخرى.
و”الفوضى المنظمة” فترة قد تدوم لعشريات، فمثلما كانت أدوات الإستبداد هي “الضامن” لعشريات الإستبداد القاسية وتوصلها، يكون منسوب الحرية العالي أساس تواصل “الفوضى المنظمة” وحكم العصابات بلوبياتها ومراكز قواها التي استطاعت أن تستفيد إستفادة قياسية من “الإقتصاد الموازي” بأثريائه الجدد، وأن تصلهم بالأثرياء القدامى، وهو ما عجزت عنه حكومات الثماني سنوات وتركت القطاع الموازي نهبا للسيستام وعصاباته ولم تجتهد في إدماجه ولو على مراحل.
في هذه الحالة سيكون عنوان المرحلة: قل ما شئت وأنا أفعل ما أريد، وهو أفضل وضع كان يسعى إليه القديم وسيستامه.
إذا تأكدت هذه الشروط فإنّ النهضة لن تُقبل حتى مع حماسها لإملاءات كريستين لاغارد، لن تقبل وإن طبّعت، لن تقبل وإن قبلت بتقرير بشرى وأصرّت على أن تضيف إليه فصلا في تعدد الأزواج.
ترفض ليس لأنها إسلامية أو “ناقصة مدنية” وإنّٰما لأنها أحد أهم شروط تأسيس الديمقراطية في مجال عربي لا أفق له وهو يهم بالخروج من حرب أهلية شطبت شروط الإختيار الحر وغيرت الديمغرافيا وأبادت الإنسان وباعت الأرض وجعلت المطالبة بالحرية والكرامة من الكبائر (سورية/اليمن). ولو توفّر في الوطد اليوم شرط تأسيس الديمقراطية لحاربوهم باسم الشريعة ودرء الخطر عن دين الله من الملاحدة.
هذا المآل قد يمثّٰل صحوة ضمير عند بعض القوى السياسية والإجتماعيّة، التي تخدم السيستام بمواقفها موضوعيا، لتستخلص الدرس ولو بعد عشريتين.
تقديري أن الاحتمال الأخير هو الأرجح: تسليم النهضة للباجي والتوافق لإخراج الشاهد بأقل “تمرميد”.