الأربعاء 25 يونيو 2025

التمليك الثقافي لقيم الثورة… الحلقة المفقودة في مسار الإنتقال 1/2

بشير ذياب

أن تسبق الثقافة الفكرة أو تلحق بها ليس مهما، ولكن المهم هو إيجاد ثقافة الفكرة وتركيزها بكل الوسائل المتاحة، فالرسالة المحمدية لم تكن لها ثقافة سابقة، بل جاءت فكرة غريبة على مجتمع الجزيرة العربية، بل فكرة مناقضة لثقافة المجتمع بل محاربة لها أصلا، فالمجتمع العربي قبل الرسالة كان يعيش على الخمر والميسر والدعارة والعبودية وقوة المال والجاه، وقد لخصها جعفر بن أبي طالب في خطابه أمام نجاشي الحبشة حين قال “أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف… “،

في ظلمة هذه الجاهلية تأتي ثورة الرسالة لتأخذ الجزيرة العربية من النقيض إلى النقيض، يقول جعفر متحدثا عن ثورة الجزيرة العربية “فكنا على ذلك حتى بعث فينا الله رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته وعفافه،فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ” ، إذن من النقيض إلى النقيض تأخذ رسالة محمد أجلاف الجزيرة العربية، برجال منهم، ملّكهم محمد ثقافة رسالته فكانوا هم النواة الأولى للنخبة الإعلامية الداعية للرسالة الجديدة، فالمرحلة الأولى من ثورة جزيرة العرب هي التبنّي الإعلامي لنخبة من الرجال والنساء تولّوا الدعوة لهذه الرسالة وضحوا من أجلها، وهاجروا ، فكانت تتملّكهم ويملّكونها في حلّهم وترحالهم.

إذن فقادة الثورة يجب أن تكون فيهم خصال الصّدق وأصالة النّسب والأمانة والعفّة، وهي صفات يغفل عنها الكثير من المنظّرين للقيادة السياسية، فقبل الشهادة العليا والمركز الإجتماعي والحضور الرّكحي هناك صفات مهيّأة لدرجة القيادة الرّاشدة، وهي صفات من المشتركات الإنسانية السّامية فلا يمكن أن تربط بالإسلام السياسي أو أن يعزف أحد عن إعتمادها بخلفية إيديولوجية أيّا كانت، فصفات الصدق والأمانة والعفّة وطيب النّسب لم تختلف فيها الديانات السماوية ولا القوانين الوضعية وكل قائد لا يتوفّر فيه الحدّ الأدنى من هذه الصفات يفقد جزءا هامّا من قدرته على توجيه أتباعه نحو الهدف المنشود لأنه يحمل خللا جينيا يفقده نقاوة التفكير وبالتالي يفقده بعد النظر الإستراتيجي لأن مصالحه الشخصية والفئوية والقبلية فكرية كانت أو فئوية تتسرب أساسا من هذه المداخل المهيّأة بصفة طبيعية لإحتضانها.وكما يقول الرسول الكريم ” الكفر والإيمان لا يجتمعان في قلب واحد”.

فرسالة الجزير العربية إعتمدت في بداياتها على نخبة من أعيان مهد الرسالة، من أكابر وعليّة القوم، من أشراف مكة وقادتها السياسيين والعسكريين ورجال أعمالها من كبار التجار، فمن كبار الساسة إعتمدت على إبن أبي طالب ومن كبار المحاربين إعتمدت على حمزة، ومن رجال الأعمال خديجة وأبي بكر وعثمان… هؤلاء القادة إنخرطوا في المسار الثوري بعد أن أدركوا أن الرسالة الجديدة تدعو للمشترك الإنساني الأسمى، وهؤلاء على غلظتهم وشدتهم في الجاهلية إلا أنهم كانوا يتمتعون بإنسانية عالية، كما قال فيهم قائدهم ” خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية ” فالرسالة الجديدة تبني على المشترك الإنساني ولا تقوضه، وما نسمعه اليوم من حديث إيديولوجي إقصائي عن الرجعية والتخلف إنما ينمّ عن جهل مركّب بكنه رسالة الإسلام، أقول جهلا مركّبا لأن هؤلاء لا يدركون أنهم جاهلون من ناحية ومن ناحية أخرى يرفضون مطلقا الإنخراط في النقاش العلمي لفلسفة رسالة جزيرة العرب، لأنها كما تعارضت مع مصلحة فئة من أهل مكة آنذاك تتعارض اليوم وبشكل أكبر مع المصالح الذاتية والقبلية الفكرية لطائفة أخرى من المتنفّذين في قطاعات ( التربية والثقافة والمال والإعلام والنقابات… ).

إنخراط كبار التجار والوجهاء في المسار الثوري تم وقتها من الناحية السياسية بإنخراط طوعي لعدد من عوائل علية القوم في الرسالة المحمدية، وهو ما دفعهم للبحث عن سبب إنخراط هؤلاء الأشراف في دين يحارب دين آبائهم وأجدادهم ويقوض النمط المجتمعي للجزيرة العربية ورغم ذلك فإنهم مستميتون في الدفاع عنه فقتل من قتل وشرّد من شرّد وبإنخراطهم في البحث العلمي لفهم الظاهرة وجدوا أنها تستحق التضحية لما تحمله من غايات إنسانية وسياسية عالية، ولذلك أقول وبعيدا عن كل التجاذبات السياسية أن إعتبار كل المنظومة القديمة لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تمثل جزءا فاعلا في ماكنة الثورة هو قول لا تدعمه الوقائع التاريخية، فالوليد إبن المغيرة من أكبر قادة الجاهلية جاء من صلبه خالد إبن الوليد، عكرمة بن أبي جهل، عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، وعمرو بن العاص وأبوه العاصي بن وائل السهمي وهو من صناديد الكفر، وأبو عبيدة بن الجراح وقد تعرض له أبوه في معركة بدر فقتله وفيه نزلت الآية 22 من سورة المجادلة.

لا يمكن أن توصف ثورة الجزيرة العربية بأنها ثورة جياع أو ثورة عبيد لأن أشراف مكة وتجارها وعبيدها كانوا في صفوفها الأولى، بل هي ثورة قيمية وفكرية تنقل الناس من عجرفة الجاهلية ووحشيتها إلى نور الهداية والعدالة الإجتماعية والإنتظام السياسي المتحضر ولتخرجهم من ضيق النظام القبلي الجاهلي إلى فسحة نظام الدولة المدنية المتطورة يستوي فيها العبد بسيده في الحقوق كما في الواجبات، لذلك إصطدمت الدعوة للرسالة الجديدة بثورة مضادة تحمي عرش أباطرة المال والجاه والجهل لأن بعدهم الإستراتيجي لا يمكن أن يتجاوز جدران مصالحهم الذاتية لأنهم يرون أن كل ما حولهم إنما سخر لخدمتهم ولا فرق عندهم بين العامل أو العبد وزوجته وحماره ونعله فهي كلها أشياء تؤثث عرش الأباطرة.


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

القصور الفكري… ومعادلة بناء الدولة

بشير ذياب بعد ثمانية سنوات من الإنتقال المترنّح أصلا يعود بنا البعض للمربع الأول وكأن …

متى يستفيق أهل الكهف

بشير ذياب اليوم وأمام هذا التشتت الذهني الذي نعيشه كتونسيين أو كعرب عموما، يبدو أننا …

اترك تعليق