رغم اختلاف النخبة السياسية في معنى تعديل النظام السياسي، فإنهم يتفقون على وجود خلل ما يستحق تدخل المشرّع لتصحيحه. بل إننا لا نعدم في البلد الذي فجّر الربيع العربي من يذهبون بمعنى “التصحيح” إلى نهاياته العدمية أو الانقلابية، فالكثير ممن ينتمون إلى ما يُسمّى بـ”العائلة الديمقراطية”؛ ما زالوا إلى الآن مسكونين بهاجس “تجانس” الحقل السياسي الذي ينبغي أن يكون”علمانيا” (بالمعنى الفرنسي الذي تتحول فيه اللائكية إلى ديانة وضعية)، وهو ما يعني بالضرورة إقصاء حركات الإسلام السياسي، وتحديدا إقصاء “حركة” النهضة” ذات الخلفية الإخوانية من العمل السياسي القانوني. ولم يجد هؤلاء “الديمقراطيون” أفضل من المدخل القضائي لتحقيق رغبتهم، وهو ما قد يفسّر إلى حد كبير اللغط المتواصل حول “التنظيم السري” لحركة النهضة.
بعيدا عن هذا المنطق الانقلابي المغلّف بواجهة قانونية ومفردات “حداثية” مدارها اختزال المشترك المواطني في المرجعية اللائكية الفرنسية، يطرح النظام السياسي المعتمد بعد الثورة جملة من الإشكاليات التي ينبغي مواجهتها. فالنظام البرلماني المعدّل كان في مجمله نتيجة توازنات ظرفية من جهة أولى، وكان من جهة ثانية استجابة لانتظارات جماعية تتوجّس خيفة من النظام الرئاسي المرتبط بمرحلتي الاستبداد الدستورية والتجمعية.
رغم ارتفاع عدد الأحزاب المعترف بها في تونس إلى ما يزيد عن المئتي حزب (212 حزبا سنة 2018)، فإن الأحزاب المهيمنة على الساحة السياسية لا تتجاوز عدد أصابع اليد. أما بقية الكيانات السياسية، فإنها أقرب إلى “الديكور الديمقراطي” الصوري منها إلى أن تكون ذات تأثير فعلي على مجرى الأحداث. وهو أمر قد يطرح ضرورة تعديل قانون الأحزاب بربطه بتمثيلية انتخابية معينة. فلا معنى لأحزاب لا تشارك في الانتخابات، بل تدعو إلى مقاطعتها، ولا معنى لأحزاب لا تُمثّل إلا قياداتها، ولا وجود لها خارج المنابر الإعلامية. وقد يكون تدخل الدولة ضروريا لضبط شروط التمويل العمومي للأحزاب ولمراقبة تمويلاتها الخاصة، بحيث يمكن للسلطة أن تطالب بحل الأحزاب التي لا تتحصل على نسبة من التأييد الشعبي، بشرط أن يكون السقف الأدنى الذي يُحدد تلك النسبة ناتجا عن توافقات مجتمعية حقيقية؛ تتجاوز الحقل السياسي وتنفتح على مكوّنات المجتمعين المدني والنقابي.
أما “نظام أفضل البقايا” المُعتمد منذ انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011، فقد كان أساسا لمنع الهيمنة المطلقة لأي حزب سياسي على المشهد السياسي، كما أنه كان سندا للعديد من النخب اللائكية التي لم تكن لتدخل المجلس التأسيسي (سنة 2011) ولا البرلمان (سنة 2014) إلا باعتماده. ولذلك، طرح المشروع الحكومي الرامي إلى تحديد العتبة الانتخابية في حدود خمسة في المئة العديد من المخاوف (خاصة داخل الكيانات السياسية التي هي أقرب إلى اللوبيات أو الجماعات الوظيفية المحرومة من القوة الكمّية؛ رغم قوتها “النوعية”). ونحن لا يمكن أن ننفيَ شرعية تلك المخاوف من أن تفرز العتبة الانتخابية المقترحة هيمنة للأحزاب الكبرى، مع ما يعنيه ذلك من تغييب لأية معارضة برلمانية لخياراتها الاقتصادية والاجتماعية، ولكنّ تلك المخاوف تفتقد شرعيتها إلى حد كبير عندما نتذكر أنّ أغلب المعارضين لمشروع العتبة الانتخابية ماهم في الواقع إلا “ملحقات وظيفية” بالأحزاب السياسية الكبرى (خاصة نداء تونس)، وذلك بحكم فقدانهم لمشروعهم “الخاص”، واندراجهم طوعيا ضمن مشروع المنظومة السابقة في إعادة التموضع والانتشار.
ومهما كانت أهمية الفسيفساء الحزبية أو القانون الانتخابي في الإخلالات التي يعيشها المشهد السياسي التونسي، فإن النقطة الأهم كانت وما زالت هي النظام البرلماني المعدّل. فهذا نظام يمنح سلطات واسعة لرئيس الحكومة؛ باعتباره زعيما للأغلبية الفائزة في الانتخابات البرلمانية، ولكننا وجدنا أنفسنا بعد انتخابات 2014 أمام وضع متناقض: زعيم الحزب الفائز بالأغلبية اختار قصر قرطاج وزهد في قصر الحكومة بالقصبة. وتزداد حدّة التناقض عندما نتذكر أنّ النظام البرلماني المعدّل يحدّ من صلاحيات رئيس الدولة، ولكنه في الآن عينه يشترط الانتخاب المباشر له، وهو واقع انتخابي استمدّ منه رئيس الجمهورية “شرعيةَ” افتقدها رئيس الحكومة المقال الحبيب الصيد، ورئيس الحكومة “المتمرد” يوسف الشاهد.
ونحن نميل إلى أنّ الأزمة السياسية قد بدأت عندما اختار الباجي قائد السبسي الترشح للرئاسة، ولم يختر مسايرة النظام السياسي الجديد بالبقاء زعيما للأغلبية البرلمانية (أي لم يطرح على نفسه رئاسة الحكومة). ولا شك في أن خيار رئيس الجمهورية الحالي كان مرتبطا (بالإضافة إلى الرغبة اللاواعية في وراثة قصر الزعيم لورقيبة ورمزيته) باندراجه ضمن استراتيجية سياسية كاملة ترمي إلى “مركزة السلطة” مرّة أخرى، بل إلى “شخصنتها”، كما كان الأمر زمن المرحوم بورقيبة والمخلوع ابن علي. ولذلك، كان على “المنظومة القديمة” أن تدفع بمرشحها إلى الانتخابات الرئاسية؛ تمهيدا لتوظيف قوته الحزبية في تعديل النظام السياسي نحو نظام رئاسي صريح. وقد عمل رئيس الجمهورية كل ما في وسعه لتحويل النظام الرئاسي الواقعي (لا القانوني) إلى محور العملية السياسية في تونس.
بصرف النظر عن تقييمنا لأداء رئيس الجمهورية ولطبيعة مبادراته التشريعية، انطلاقا من قانون المصالحة الإدارية وانتهاءً بمشروع المساواة بين الجنسين في الميراث، وبصرف النظر عن تحديدنا “للمزاج السياسي العام” في تونس وموقفه من النظام البرلماني المعدّل، يمكننا أن نعتبر أن السيد قائد السبسي كان أسوأ مدافع عن النظام الرئاسي. فهو منذ ترشحه للانتخابات الرئاسية لم يقدم نفسه على أنه مرشح كل التونسيين، بل مرشح “الحداثيين” و”الملاّكة”، كما سماهم هو باللهجة التونسية. وبحكم الاصطفافات الهوياتية، كان السيد قائد السبسي رئيسا للعائلة “الديمقراطية” خلال فترة الانتخابات، ثم أصبح رئيسا لجزء منها بعد توافقه مع حركة النهضة، ثم انتهى به الأمر بعد “حرب الشقوق” التي عصفت بحركة نداء تونس؛ إلى أن أصبح رئيسا للعائلة البيولوجية (وتوابعها)، بقيادة ابنه حافظ قائد السبسي.
ختاما، قد يكون النظام السياسي في تونس محتاجا إلى تعديلات جوهرية، ولكنها تعديلات يجب أن تمضيَ في اتجاه ضرب “المركزية” التي تجد تعبيرتها الأهم في النظام الرئاسي، وهو أمر متعذر دون تقوية اللامركزية والحكم المحلي على مستوى البلاد بأكملها. ولا شك عندنا في أنّ رئيس الجمهورية قد أظهر(بنزعته التسلطية وطموحاته التوريثية، وبرغبته في تهميش مؤسسة رئاسة الحكومة) صوابية اعتماد النظام البرلماني المعدّل، بل صوابية أي تعديل يزيد في تحجيم مؤسسة الرئاسة ونزعاتها التسلطية.
أمّا الانتقادات التي تُوجه لهذا النظام، فإنها رغم شرعيتها؛ تتناسى أن العائق الأكبر أمام حسن اشتغاله هو تلك العقول التي تربّت على عبادة الزعيم/ وعلى عقلية الحزب الواحد/ وعلى “قابلية الاستلحاق” بمراكز النفوذ المنتمية للمركّب الجهوي- المالي- الحاكم منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.
ولذلك، فإن الحديث عن “مزاج شعبي عام” يميل إلى النظام الرئاسي، هو في نهاية التحليل اندراج في مشروع المنظومة السابقة التي تهدف إلى مركزة السلطة لتسهيل استراتيجياتها في استعادة الهيمنة على الحقل العام. وقد أثبت رئيس الجمهورية بمجمل مبادراته التشريعية خطورة النظام الرئاسي. فرغم محدودية صلاحياته، فإنه قد أظهر قدرة عجيبة على ضرب مسار الانتقال الديمقراطي، وعلى تهميش شركائه وترذيل خصومه، كما أثبت أنه لا ينتمي إلى زمن الثورة وإلى روح دستورها الجديد، بحيث يمكننا اعتبار الرئيس مجرد ترسب لاوظيفي من زمن هيمنة ثالوث “الزعيم- الحزب- الدولة” في لحظتيه الدستورية والتجمعية، وهو ثالوث لا يختلف عاقلان في أنه جذر الاستبداد وعدو الثورة والتجلي الأمثل للاستعارة الرعوية التي لا يمكن بناء الجمهورية الثانية إلا على أنقاضها.
“عربي21”