قد يتملّكك شعور أحيانا وأنت ترتشف آخر رشفة من قهوتك أن تستمتع بلذّة الإنتماء لهذا المجتمع، فتفتح شباك سيارتك وتلقي بإنائك البلاستيكي من النافذة، ككلّ تونسي إرتشف كأس حداثته حتّى الثمالى، وقد يحدث أن تتحدث مع صديقك عن السّلوك الحضاري طوال الطريق وأنتما في السيارة، ثم يفتح نافذته ويلقي بقشرة الموز في الطريق، ثم يغلق النافذة ويقول شعب متخلف، شيزوفرينا حقيقية نعيشها يوميا، ونناقش أعراضها يوميا في البيوت والمقاهي والمكاتب …ثم نعيدها وكأنها قدرمحتوم، أو كأن آليات إنفاذها تتحكم في عقولنا المخدّرة التي تسير بنا إلى حتفنا.
هذه السلوكات المرضية قد تتطلب دراسات معمقة من علماء النفس والإجتماع، ولكن سلوكات حكوماتنا المتتالية منذ 2011 إلى اليوم لا تتطلب كثيرا من الحكمة والعلم للحكم عليها أو لتفكيكها، فكل النوسيين مثقفون وجهلة ومتحزبون وغير متحزبين، ومؤدلجون وغير مِدلجين، متفقون على أننا على شفير الهاوية إقتصاديا، وأن البلاد إرتهنت كليا للدول والصناديق المانحة، وان سيادتنا الوطنية أصبحت في الميزان، فنحن الان في مرحلة متقدمة جدا من “تسوّل الدولة”، لكن مقابل هذه الوضعية الحرجة إقتصاديا وإجتماعيا وصحيا… نلاحظ برودا سياسيا لا يكاد يفسّر في تصرفات الحكومات المتتالية بما فيها حكومة السيد يوسف الشاهد، فالمنطق الذي تدار به ميزانية الدولة لا يكاد يخضغ لمنطق أو قانون من قوانين الطبيعة الفطري منه كعالم الحيوان أو المكتسب بتراكم التجربة.
فحين نتحدّث عن إثقال كاهل الدولة بدعم المواد الأساسية “أي قوت الفقراء والمساكين” أو لنقل “الفئة الهشّة في المجتمع”، ونستعمل كل الأرقام الإقتصادية والتبريرات الممجوجة لتبرير قطع هذا الدعم أو التخفيض فيه تدريجيا، يفترض وبكل قوانين الطبيعة أن تكون الدولة قد مرّت بمراحل أخرى قبل هذه المرحلة التي تمس “العرجة والبرجة ومكسّرة القرنين” من المجتمع. يفترض أن تتحدث الدولة عن حجب الإمتيازات للمواطنين المترفين المستعملين لكل الرفاهيات “وهي أكثر إيلاما للدولة” من مال الشعب مثل السيارات ووصولات الوقود والشهر الثالث عشر والرابع عشر، وأن تحجب الإمتيازات عن موظفي المؤسسات العمومية “الكهرباء المجاني والماء المجاني وعلّوش العيد المجاني ووصولات الأكل المجاني التي تصرف “حتى في رمضان ونظام الحصة الواحدة”…
أما بالنسبة للنفقات العمومية للدولة فكان يفترض أن تقلّص (في الحدّ الأدنى) نفقات الترّف الإجتماعي فأنا مثلا كمواطن بسيط، لا أفهم كيف تقبل دولة على حافة الإفلاس الإقتصادي، وتقترض من الدول والصناديق المانحة لدفع رواتب الموظفين، وصناديقها الإجتماعية مفلسة ومتقاعدوها “الفئة الرّخوة في المجتمع” مهددون بحجب رواتبهم، ووزيرهم يقول “متقاعدونا وطنيون وينجمو يصبرو علينا شهرين وإلا ثلاثة”، كيف لدولة في هذه الوضعية المتردّية أن تسمح لنفسها وهي تهدّد بحجب الدعم عن المفقرين أن تدعم سنويّا قطاع “المسرح بما يزيد عن 6 مليارات، وقطاع السينما بما يزيد عن 4 مليارات، والموسيقى والرقص بما يزيد عن 4 مليارات، وبرمجة رمضان للقناة الوطنية بما يقارب 5 مليارات… ولنتحدث بإجمال نقول أن ما يفوق 20 مليار تنفق في هذه السنوات العجاف على الفنون “ترف العيش”، في حين أن الآلاف من حاملي الشاهادات العليا “يثقل الإملاق ممشاهم” في دولة الحقوق والحريات، يتسوّلون من آبائهم وأمهاتهم ثمن القهوة “السّادة”.
الثقافة والفنون إن لم تساهم في بثّ الوعي وتساهم في بناء السلوك الحضاري في الناشئة والمجتمع عموما فإن الإنفاق عليها يعدّ إسرافا وتفريطا في المال العام، وأثر ما تبثه هذه الفنون في المجتمع يكاد يكون عكسيّا إذا سمنا أن الثقافة هي الغذاء الروحي للمجتمع، فالفوضى تكاد تكون السمة الأبرز في كل الأماكن العامة، والعنف يكاد يصبح السمة الرئيسية للمجتمع، (السرقة البراكاجات التحرّش، زنا المحارم…) وقد يكون القادم أسوا مع دخول أسوأ أنواع المخدرات على الخط.
إذا لم تساهم الحركة الثقافية التي لم يتوقف دعمها حتى ونحن على شفير الهاوية إقتصاديا في بناء ثقافة تحترم في حدّها الأدنى الذات البشرية وتحترم “الآخر” أيّا كان إختلافنا معه وتكرس سلوكا حضاريا يؤمّن في حدّه الأدنى المواطن في دمه وعرضه وماله، فإن دعمها يصبح تشجيعا على مزيد هدر المال العام تحت يافطة “الثقافة والفنون والحداثة”، أين الذوق العام وأين هو الوجه الفني في أن يخرج علينا أحدهم عاريا تماما، ودون سابق إعلام على ركح المسرح ؟ فإن كان “لا إكراه في الدين” فإنه من باب أولى “لا إكراه في الحداثة”، إن كان التّعرّي أبرز ما فهمته نخبنا الثقافية من الحداثة الغربية، ويبقى دائما كما قال محمد مزالي “الأدب خير من قلّة الأدب”.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.