كيف أجيدُ العربيّة الصّحيحة دون حاجة إلى ضبط الكلمات بالحركات ؟
/|\ #أسئلة_متكرّرة
وصلني هذا السّؤال من شابّ عربيّ حريص على سلامة لسانه : (السّلام عليكم أستاذ بشير، في محاولة منّي لمزيد التمكّن من اللغة العربيّة – بعد فقدان الأمل في تعلّمها عن طريق النّحو والقواعد وغيرها – هل يوجد كتب تُنشر #مشكولة ؟!!
أحتاج في حياتي المهنيّة لنطق العربيّة صحيحة لا لحن فيها، ولكن للأسف أعاني بعض المشاكل في تشوّه السّليقة. وأستمع لمقاطع فيديو بالعربية، وأريد أن أقرأ نصوصاً عربيّة مشكولة، كي أتجاوز أنّني أنطقها في ذهني بطريقة قد تكون خاطئة).
إنّ التّوصيف الذي انطلق منه السّائل الكريم، هو توصيف صحيح، لأنّه يعاني فعلا من تشوّه السّليقة في البلاد العربيّة. ويعود ذلك لسببين رئيسيّين : أوّلا غياب سياسة لغويّة فعّالة وجادّة يقوم عليها مسؤولون يحملون القضيّة اللّغويّة باعتبارها مسألة سيادة. فمن لا لغة له، لا سيادة له. وها هي ذي النّتيجة ماثلة أمامنا : إذ يقضّي هذا الشابّ عشرين سنة في نظام تعليميّ عربيّ، ويتخرّج للحياة المهنيّة فيجد نفسه يعود إلى القواعد النحويّة طمعا في تحسين النّطق والإعراب الصّحيح ! ولكن هيهات ! ثانيا : انخرام التعرّض اللّغوي بعد استفحال الإعلام المبتذل النّاطق باللّهجات المحلّية، فتمّت إزاحة الفصحى من المسموع والمرئي والشّارع والإدارة تدريجيّا، ولا يكاد العربي يسمع الفصحى الْيَوْم إلا في خطب الجمعة المكرّرة وأغلبها من الرثّ الرّكيك، أو في نشرات الأخبار عن المصائب والحروب والخراب، وما دون ذلك، تمّ استبعاد الفصحى رويداً رويداً من حياة الناس واستخفّ الإعلام الهابط بمن يتكلّمها، حتى كادت الفصحى تغدو غريبة في أهلها. هذا التعرّض اللغوي الذي نقصده، بقدر ما يكون منخفضا في عدد السّاعات التي يتابع فيها الإنسان محتويات متعدّدة القنوات، كلّما انعكس الأمر سلبا على المستمع، والعكس صحيح.
من هنا، أنصح الشّاب العربيّ الكريم الذي سأل، وسائر الشّباب باتباع الخطوات التالية، لتصحيح الألسن :
- رفع درجة التعرّض اللّغوي : أنصح الشباب بترك متابعة الإعلام المقدّم باللهجات العامية، لأنّ ذلك يسبّب الرّداءة اللغوية، كون اللهجات لا تنضبط بنظام تركيبي واحد ولا تراعي الطبيعة الإعرابية للغة العربية (أي نطق أواخر الكلمات بحسب القواعد اللغوية). وتوجد قنوات تحترم الليان العربي أبرزها قتاة الجزيرة، يمكن متابعة برامجها الوثائقية والإخبارية مثلا. وكلّما زاد من عدد الساعات التي ينغمس فيها الإنسان في لغة معينة، كلما تعوّد السّماع على نمطية تلك اللغة وفق قواعدها الأساسية، حتى من دون معرفة تلكم القواعد بالضرورة.
- أنصح الشباب الناطق بالعربية بمضاعفة جهود القراءة الجهريّة من الكتب ذات اللّغة القريبة من لغتنا المعاصرة، بإعراب أواخر الكلمات، ثم تصحيح ذلك ومعرفة مواطن الخطأ عبر المنطق اللّغوي ذاته، أي منطق اللّغة في تعليل الإعراب، وفهم أسبابه، بدل حفظ القواعد الذي لا يساعد كثيرا في هذا الباب. ومثال ذلك : قول القائل : الرّجلُ مجتهدٌ. فالرّجل هو المبتدأ. والمبتدأ مرفوع. وهنا علامة الرفع الضمّة الظّاهرة. ثم يقول المتدرّبُ : الرّجلان مجتهدان. وههنا يكون الرّفع خلاف الأولى بالألف والنون للمثنّى. ثم يطبّق الجملة مع المذكّر السّالم والمؤنّث السّالم وجمع التّكسير، فسيدرك بسرعة التّغييرات الطارئة على أواخر الكلمات، ويستوعب القاعدة منطقيّا بدل حفظ القواعد دون فهم تنزيلها لسانيا. وهذا شبيه تقريبا بما يسمّى بالنّحو الوظيفيّ.
- أنصح الشباب باستخدام (تعلّمية الخطأ) أي : التوقّف تماما عن اعتبار الخطأ سيّئا، والعمل في مجموعة مصغّرة على التدرّب الذاتي، وتصوير مرئي للكلام الملفوظ، مع التوقّف عند كلّ خطأ وتفكيك أسباب الخطأ وتصحيحه ثم التكرار. إن الخطأ في ثقافتنا العربية لايزال منبوذا، ويخافه الصغير والكبير، بسبب التنشئة الخاطئة التي نشأنا في ظلالتها. فالخطأ ينبغي أن نحتفي ونفرح له كما نحتفي بالصحيح السليم تماما. وهذا يتطلب دربة على تغيير عقلياتنا وأفكارنا البالية.
- أنصح الشّباب بإنتاج اللغة : أي : كتابة اللغة أو قراءتها أو الخطاب بها عن ظهر قلب. وإنتاج اللغة هو السبيل الأيسر من أجل فهم ضبط الكلمات وطريقة نسج المعاني والتعبير عن المكنون النفسيّ لكلّ أنسان، وسيساهم ذلك بطريقة حاسمة في فهم ضبط الكلمات من دون حاجة للتشكيل.
- أنصح الشّباب بتجنّب تشكيل الكلمات من أجل قراءتها، وسبب ذلك، أنّ الضبط بالتشكيل تلتقطه العين وترسم له صورة في الذاكرة البعيدة، دون معرفة سبب منطقي يوجب الحركة الأخيرة للكلمة المعربة. وبدل ذلك، تعلّم الميزان الصرفي وقواعده، فهنالك كلمات مركبة بطريقة منطقية في اللغة العربية، ومثاله : وزن (فِعالة) فهو وزن يستخدم للحرف والمهن بشكل عام. ووزن (فُعالة)، وهو وزن خاص بالبقايا مثل نُخالة، حُثالة، وهكذا ! فالصيغ الصرفية ودلالاتها أسرع لذهن الإنسان لأنّ أذهاننا تحتاج دوما (معالم وعلامات للتخزين في الذاكرة البعيدة). وطالما لم تفهم ذاكرتنا الرابط المنطقي للكلمات، فإنّها لا تخزّنها بشكل ذكيّ، بل بشكل تلقينيّ لا يطول استذكاره. منا توجد قواعد منطقية جدا في لساننا العربي، علينا معرفتها، وهي قواعد الضبط بالتشكيل : ومثال ذلك : لا يكون قبل التاء المربوطة إلا فتحة. مثل : فتحةٌ، فقبل التاء المربوطة دوما يكون حرف مفتوح. فحين يتعلم ذهننا هذه القاعدة، انتهى ! سيطبّقها ولا حاجة للضبط أبدا !
- أنصح الشباب بأن يلحّوا على أساتذتهم مخاطبتهم بفصيح الكلام ومليح التراكيب في الفصل، وتجنّب الكلام باللّهجات المحلّية، فهي تترك أثرا سلبيا مقيتا وبلادة لغوية لا شكّ فيها على المتعلّمين. والأصل أنّ جميع الأساتذة والمدرّسين لا يستخدمون في التّعليم إلا اللّسان الفصيح المشترك.
- أنصح الشّباب بالتأمّل في آيات القرآن وصحيح الحديث النبويّ وكلام جهابذة أهل اللسان المبين، وكيفيّة إعراب أواخر الكلمات في سياقاتها المختلفة، ستكتشفون كنزا منطقيّا رائعاً، أي: أنّ أواخر الكلمات تدلّ على علاقات محدّدة بين الأسماء والأفعال والأدوات! وهذه العلاقات طريفة جدّا ومذهلة في أكثر الأحيان، ناهيك عن البلاغة والبيان، ورونق الجمل حين تكون منتظمة في خيط واحد كأنّها اللؤلؤ والمرجان في جيد الحسناء العروب! وهذا يتطلّب ترك التسرّع والبحث عن النّتائج العاجلة، فالأعجل ليس هو الأجدى قطعاً ! بل إنّه أحيانا، حين يتوقف المرء ساعة واحدة ويعلّم نفسه، يكون لتلكم السّاعة أثرا على حياة بأكملها ! وغالبا ما يكون الجهل بالشّيء متّصلا بكسل فكريّ بسيط للغاية !
- أنصح الشّباب النّاطق بالعربيّة أن يفتخر بأنه يتكلّم لغة عمرها ألوف الأعوام، وأن يشعر بالعزّة أنه يتكلم لغة زمن الصحابة وزمن النبوّة وزمن الشّهامة وزمن السؤدد ! فكثير من النّاس في حاجة لإصلاح علاقاته الروحيّة والنفسيّة مع اللّسان الأمّ ! فليس اللّسان مجرّد أداة للتّواصل، بل اللّسان هو ترجمان الكيان، وجوهر ولبّ الإنسان، وحقيقة الوجود والوجدان، وبنية التّفكير والتذكّر والنّسيان، وليس في هذا الوجود أعجب ولا أغرب ولا أطرف من اللّسان : فمن أحرف معدودة، توارثت البشريّة العلوم والمعارف والمشاعر والملاحم والدّيانات والثّقافات والمنجزات ! ولو كان بعد خلق الإنسان من معجزة، لقلت إنها معجزة اللّغة !
- أخيرا، أهيب بجميع مدرّسي اللّسان العربيّ – حيثما كتب الله لهم أن يكونوا – أن يعيدوا النّظر جملة وتفصيلا في كيفيّة تدريس اللّسان العربيّ، وأن يراجعوا القناعات الغبيّة التي نبت الرّبيع على قبورها، وأن يجدّدوا طرقهم وأساليبهم ومداخل التّعليم في فصولهم وأن يجتهدوا خارج ما تفرضه الأطر الرّتيبة والكسل المعرفيّ والثقافات المحلّية الموغلة في الانغلاق، وأن ينطلقوا انطلاقة جديدة مغايرة، وأن يتعاونوا بينهم من أجل النّهوض بتعليم اللّسان المبين وفق معايير العالم الحديث، عالم الإبداع والإمتاع، عالم الحرّية بلا انبتات، وعالم الكونيّة التي تحترم الواقع المحلّي، وعالم النّقد الذي ينتهي بالبناء والتجديد والتّرميم، بدل الهدم والتّرذيل والتّتفيه.
هذه جملة من النّصائح، أرجو أن يستفيد منها طلّاب العلم وطلاّب العمل، وإننّي أشكر شباب العرب من كلّ قلبي، لأنّهم بدأوا يفهمون خلال السّنوات الأخيرة معنى أن يكونوا أصحاب لسان ورسالة. وما وُرود هذا السّؤال من هذا الشّاب المجتهد إلا الدّليل على بداية وعي لغوي عربيّ جديد.
ولله وليّ التوفيق.
✍🏽 #بشير_العبيدي | ربيع الأنور 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |