في مطلع التسعينيات كان الإسلاميون موزعين بين معتقلين وملاحقين ومهجرين. وكنت في تلك الفترة من المهجرين.. وكنت أعيش في المغرب، حيث كان للوجود الإسلامي التونسي شيء من التنظم في تلك البلاد الطيب أهلها.. كنا نجتمع أحيانا على دراسة بعض الكتب البسيطة ومناقشتها ومتابعة أخبار البلاد التي تأتينا بالبريد أو بالفاكس وتنظيم خرجات ورحلات وشيء من الرعاية الاجتماعية لضعاف الحال من الطلبة الإسلاميين.
في تلك الفترة كان نظام المخلوع يبحث عن أي شيء يقنع به السلطات المغربية حتى تمتنع عن تسجيل الطلبة الإسلاميين في الجامعات المغربية.. بدأت القصة بتدخل من الحكومة التونسية وخاصة وزارة التربية (محمد الشرفي) عند نظيرتها المغربية للامتناع عن تسجيل الطلبة التوانسة إلا من له تزكية رسمية من الإدارة التونسية. وكان الحسن الثاني رحمه الله يحتقر ابن علي كثيرا. فقد عاش المخلوع فترة في المغرب ملحقا أمنيا أو عسكريا، وحين زارها رئيسا للدولة التونسية، يقال إن الحسن الثاني جمع له في الاستقبال كل العاهرات والمحششين من أصدقائه القدامى، ولذلك لم يكن الملك الراحل يصغي كثيرا لطلبات حكومة ابن علي.
لكن الإلحاح الرسمي التونسي، وكان النظام وقحا ملحاحا، عطل كثيرا عمليات تسجيلنا في الجامعة المغربية.. بقيت أنا وبعض الأصدقاء نحو 3 أشهر ونحن نسعى خلف التسجيل حتى كدنا نيأس. وأذكر أنني وصديقي محمد الحمروني رئيس تحرير جريدة “الرأي العام” الآن قد قررنا السفر لموريطانيا للتسجيل بعد أن يئسنا من المغرب.. وفي ذات يوم سفرنا جاءت الموافقة بالتسجيل في الجامعة..
جاءتنا الموافقة على التسجيل في كلية الآداب في فاس.. وكانت فاس بعيدة جدا في نظري أبعد من الصين عني الآن. وبشيء من الطلبات الملحاحة وتدخل بعض الأصدقاء تمكنت من التسجيل في الرباط في كلية الآداب محمد الخامس، حيث عدد من كبار أساتذة الفلسفة المغاربة المشهورين مثل محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمان ومحمد سبيلا وسالم يفوت وعبد السلام بن عبد العال.. وآخرون.
أعود للوجود الإسلامي وظروف إقامة الطلبة الإسلاميين في المغرب.. قلت إن نظام ابن علي كان يسعى لمنع تسجيلنا في الجامعة المغربية وفشل.. وكان يهمه جدا أن يجمع أكثر ما يمكن من معلومات عن “خطورتنا” حتى يقنع السلطات المغربية بأننا مجرمون ومن كبار القتلة والإرهابيين.. الخ.
ولذلك كان الحاج الناصر، وهو من خيار الناس أدبا وخلقا ولطفا، وكان مسؤولا في المجموعة، حريصا جدا على أن لا يرى أحد من الطلبة التوانسة أن عنده فاكس.. إنه فاكس التنظيم، ولا يمكن كشفه لأي طالب.. ولذلك كان الحاج الناصر إذا دخل البيت أحد غريب، يرتبك الحاج ويبادر سريعا إلى إخفاء الفاكس.. فالفاكس دليل على وجود “التنظيم السري”.. وقد يطلق علينا بعض أصحاب الخيال الخصب اسم “تنظيم عصائب أهل الحق والفاكس”، وانكشاف “التنظيم السري” قد يعني أن تسلمنا الحكومة المغربية للنظام التونسي ولليسار الحاقد ليستمتع بنجاحاته في تضييق العالم الرحب الواسع على “الخوانجية”.
كان للفاكس في تلك الأيام شأن عظيم، فهو أداة خطيرة تستقبل النشريات والمجلات الصغيرة والأخبار، وهي عند الحاكم اخطر من القنابل وتتساوى ربما مع الأسلحة النووية. ولذلك لم يكن مزحا اكتشاف فاكس الحاج الناصر، فهو دليل دامغ على وجود مجموعة خطيرة تهدد أمن الدولة.. فكيف لطالب أن يملك جهازا بالغ الخطورة، يسرب الأخبار والمعلومات من وراء ظهر الحكومة وهي غافلة لا تعلم؟.. لابد أن هناك “تنظيما سريا” يتوارى خلف ذلك الفاكس، فالفاكس هو القليل مما يظهر من جبل الجليد المخفي.
لم يعد اليوم للفاكس شأن.. فجهاز الهاتف الذكي أخطر من ألف فاكس، فبه ترسل الأوراق والرسائل والصور والفيديوات.. وقياسا على أخينا الحاج الناصر وفاكسه، فمعظم الناس اليوم تنظيمات سرية خطيرة.. تتبادل الأوراق والمعلومات، التي لا تزال عند الكثير أخطر من القنابل النووية.. وربما استخدم الهاتف الذكي لتبادل أشياء أخرى يستحي منها الحاج الناصر، فقد كان ذكره الله بخير رجلا خجولا غاية في الخجل والطيبة و”السرية”.