السلوك التفاوضي والإعلامي لكلّ من الوزارة وجامعة الثانوي على السواء متوتّر وصدامي وسطحي وعنجهي أفهم منه أمرين:
- في الحدّ الأدنى: افتقاد كلا الطرفين لكفاءات في التفاوض وفي التعاطي الإعلامي.
- في الحدّ الأقصى الذي قد يبدو مبالغا فيه ولكن لا شيء ينفيه: رغبة الطرفين في تعفين الوضع وتوظيف الأزمة في خدمة أجندات سياسية يبدو أن جوهرها التقاء تكتيكي بين خطتي نداء السبسي والجزء الوطدي على الأقلّ من الجبهة الشعبية في العمل العاجل على إزاحة الشاهد بكلّ الأدوات والأثمان.
هل يعني هذا أن مطالب الأساتذة غير موضوعية؟
هي مطالب مهنية حقيقية وموضوعية وكان يمكن لو توفرت الرغبة من الطرفين في التعاطي العقلاني معها أن تعالج في الحدّ الأدنى. ولكن من الواضح أن الطرفين يتصرّفان بكثير من الصلف والخفّة.. والحسابات.
الوزير محكوم بانفعالات شخصية تتغذّى من رغبة خفية في الثأر لخروجه المهين من الحكم بسبب الثورة فينزلق بسهولة نحو سلوك التهديد والقوة بعد نجاحه في إذلال النقابة والأساتذة نهاية السنة الفارطة وهذه السنة باقتطاعات موجعة من الأجر نجحت في تنفير عدد كبير من الأساتذة من العمل النقابي، وهو يعدّ ذلك نجاحا في إضعاف النقابة لم يسبقه إليه أحد. وهذا سلوك يتناقض مع المنطق الذي يقتضي منه أن يعين رئيس حكومته الشاهد الذي يعدّ نفسه لحياة سياسية طويلة في تفكيك أسباب التوتّر والبحث عن حلّ مع جامعة الثانوي لما يمثله قطاع التعليم من ثقل اجتماعي وسياسي.
ولكن يبدو أن الشاهد في تعاطيه مع جامعة الثانوي ومع اتحاد الشغل عموما، وبناء على ما يتمّ تسريبه هذه الأيام حول خطط سرية لتفجير الوضع الاجتماعي وخلق حالة من الفوضى والانفلات الأمني بهدف إزاحته بالعنف بعد أن استعصى بالبرلمان و”السياسة”، يبدو أنه اختار إثبات قوّته وتصميمه على مواجهة أجندة خصميه السياسيّين المعلنين نداء السبسي وجزء من الجبهة الشعبية (الوطد تحديدا الذي يتمسك بإحداث تغيير جوهري على المشهد السياسي بمطالبته بحل النهضة قبل الانتخابات القادمة، خلافا لحزب العمال الذي صرّح زعيمه حمة الهمامي بأنه يرفض أن يوظف السبسي ملف الاغتيالات في معركته السياسية ضد النهضة والشاهد، وهو موقف تاريخي بكل المعاني).
في سياق هذه الحرب المعلنة بين الشاهد وخصومه والمفتوحة على تطوّرات لا أحد بإمكانه توقّعها بحكم خفة ولا عقلانية وارتهان كثير من أطرافها الظاهرين والمستترين لأجندات سياسية محلية وإقليمية، في هذا السياق المعقّد يخوض الأساتذة تحرّكا حسّاسا حول مطالب مشروعة ولكن بقيادة نقابية منخرطة فيما كنت بصدد إثارته.
هل بإمكان الجامعة العامة أو اتحاد الشغل عموما أن يدسّ رأسه في التراب ويدّعي حيادا تامّا في معركة محتدمة ستطاله تداعياتها في كلّ الحالات؟
طبعا لا.
لذلك أنا لست مع الطهرانية الساذجة التي تدعو اتحاد الشغل ومن ضمنه نقابة الثانوي إلى النأي بنفسه عن المعارك السياسية، بالعكس تماما، أنا مع استعادة اتحاد الشغل دوره الوطني سريعا.
اتحاد الشغل، في غياب أحزاب سياسية وطنية راسخة، منظمة ضابطة للحراك والوعي السياسيّين بحكم حجمها وامتدادها وطبيعتها الدامجة والمؤطرة للقطاعات المهنية والمجتمعية. هو ضمانة وحيدة في تونس ضدّ الفوضى الشاملة المدمّرة. وقدر قيادتها المركزية الحالية (التي لن يعيبها نقص في أكاديميا لم تكن يوما ضامنا لارتفاع مستوى الوعي كما ينبؤنا واقع نخبتنا الأكاديمية المزري) وهياكلها الجهوية والمحلية أن تحسن قراءة المرحلة الدقيقة التي تمرّ بها تونس، وأن تستعصي على التوظيف الحزبي الفجّ والمغامر لا فقط بمستقبل المنظمة، بل بمستقبل البلاد كلّها.
هل هذا طلب طوباوي بالنظر إلى الواقع الفعلي للمنظمة ونقابة الثانوي تحديدا؟
حقيقة لا أستطيع أن أجزم.