عاصفة اجتماعية هوجاء تمرّ على سماء فرنسا هذه الأيام، وتخلّف جرحاً عميقا في نفوس الفرنسيين، ناهيك عن ملايين اليوروهات من الخسائر ومئات الموقوفين على ذمّة التحقيق. ولقد كان المشهد نهاية الأسبوع الماضي عالي الرمزيّة : إذ قام المحتجّون بتخريب واجهات قوس النصر في العاصمة باريس، وقطعوا رأس تمثال نابليون بونابارت، وخرّبوا تمثال ماريان، رمز فرنسا، مما كان له وقع في عمق الوعي الجمعي الفرنسي.
ما الذي يحدث في فرنسا؟
إنّها عوامل متشابكة ومتداخلة أدّت إلى انفجار الوضع الاجتماعي، مع وجود نسبة كبيرة من التعاطف الشعبي مع المحتجّين، ومن هذه العوامل أذكر :
1. خيبة أمل واسعة من سياسة الحكومة المؤتمرة بتوجيهات رئيس الدولة ماكرون. فلقد أقدم الرئيس على قرارات أثارت حفيظة الشعب الفرنسي عندما قرّر الرّفع من الأداءات على المحروقات، وهو قرار يؤدّي مباشرة إلى زيادة نفقات جميع الشرائح الاجتماعية، وفِي الوقت نفسه يقرّر إعفاء جميع الأثرياء الكبار من دفع الجباية عن ثرواتهم، في مسعى محموم لتشجيع الأثرياء على إبقاء ثرواتهم في فرنسا، ولجذب الرّاسميل الأجنبية، طمعا في رفع مستوى الاستثمار الأجنبي المباشر. ولقد أدى هذا القرار لتثبيت صورة ذهنية قائمة في عقول الفرنسيين منذ انتخاب ماكرون رئيسا قبل سنة ونصف، وهي أن هذا الرئيس هو صديق الأثرياء.
2. مشاكل اجتماعية مزمنة عجزت جميع الحكومات الفرنسية – بكلّ ألوان طيفها السياسي – عن حلّها، وهي بالأساس مشكلة البطالة التي لم تشهد انخفاضا رغم الوعود، وذلك بسبب النسبة الضعيفة للنمو الاقتصادي الفرنسي، وهروب الرّاسميل والشركات ذات اليد العاملة الكثيفة إلى مناطق العالم النامي حيث المحاسن المقارنة الأنسب لصالح تلكم الشركات. فولّد كلّ ذلك ضغطا اجتماعيا متعدّد الرّوافد في فرنسا، شمل جميع الفئات التي تعيش أوضاعا هشّة، وهم خاصّة : العمّال والمتقاعدون وأصحاب الدخل الأدنى وأصحاب الأعمال المؤقتة والشباب والعاطلون.
3. محدودية هوامش المناورة السياسية للحكّام الفرنسيين بسبب وجود قوانين ومعاهدات داخلية وخارجية ضابطة لحركة الاقتصاد والمال، وخصوصا الالتزامات الأوروبية، فضلا عن القناعات الأيديلوجية للرئيس ماكرون. فلا تسمح الْيَوْم تلك الاتفاقيات إلا بهامش ضعيف جدا من الحرّية السّياسيّة، ومثالها نسبة التداين المسموح به قياسا إلى الناتج الدّاخلي الخام، ومؤشّرات المجمّعات الاقتصادية الكبرى التي تضمن الانسجام على المستوى الأوروبي، واتفاقيات التبادل التجاري مع مختلف بلدان العالم. فهذه المجمّعات منضبطة بمنظومة دولية كاملة، تجعل من قدرات الحاكم السياسي على التأثير محدودة، اللهم عند الإقدام على خرق كل الإشارات الحمراء وإجراء إصلاحات داخلية هيكلية.
4. وجود ثقافة فرنسية داخلية مهيمنة في أذهان الشعب وهي الدولة الحامية والحاضنة والضامنة للتوازنات الاجتماعية الكبرى. ولئن كانت هذه الفكرة لها ما يبرّرها في فترات سابقة حين كان الاقتصاد الفرنسي قويا ونسبة النمو مرتفعة، فإن الأوضاع الحالية تغيرت والشعب الفرنسي يعيش على أوهام سابقة لم تعد واقعيّة وممكنة. صحيح أن نظام التأمين الاجتماعي بكلّ ألوان طيفه يعتبر من بين أكرم الأنظمة الاجتماعية في العالم، والرأسمالية المتوحّشة ليست ظاهرة فرنسية كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، وثقافة الثورة الفرنسية حاضرة بقوّة في أذهان النّاس، وعدد كبير من القادة الفرنسيين، بدءاً بالجنرال شارل دي غول، حتى آخر رئيس فرنسي، اضطرّ كلّ واحد منهم أن يتراجع عن قرارات له، إثر موجات شعبية عاتية من الاحتجاجات؛ لكنّ ذلك كان ممكنا في ظلّ أوضاع مختلفة، وعلاقات دولية غير التي تشكّلت الْيَوْم بعد العولمة ومجتمع ما بعد الحداثة، كما أنّ النظام الاجتماعي الفرنسي صار مكلفا على الدولة التي تتناقص مواردها باستمرار، أو تستفيد منها طبقات متمعّشة قليلة العدد.
5. إعادة تشكّل الطبقة السياسية الفرنسيّة بعد وصول أوّل رئيس فرنسي في الجمهورية الخامسة يجمع بين جناحي الحكم التقليديين في فرنسا هما اليسار واليمين. فالحزب الذي أسسه الرئيس ماكرون انطلاقا من طيف واسع من الناس ذوي الخبرة السياسية المتواضعة جعلهم يقعون في أخطاء متتالية سياسية ساهمت في تكريس فكرة سابقة عن الحكم المداهن لأصحاب التأثير والخاضع لإملاءات القلة المتحكمة في المال والأعمال والسياسة، إضافة إلى عجز أوروبي واضح للوقوف في وجه الهيمنة الأمريكية المتبجّحة. كما أنّ حركة الاحتجاج الحالية هي طيف غير متجانس من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مرورا بالوسط وغير المسيّسين ورافضي الانتخاب. وهذا الطيف لا يمكنه الاستمرار إلا بتشكيل نواته القوية، وهذا لم يتمّ في الوقت الحالي.
هذه برأيي بعض العوامل التي ساهمت في إثارة موجة الاحتجاج الحالية، والتي تهدّد بالانتقال إلى دول أخرى مثل ألمانيا وبلجيكا. وتجدر الإشارة هنا إلى عدد من الاحتمالات :
• الاحتمال الأول : أن تنجح حركة الاحتجاج في فرض رأيها وتجعل الحكومة تتراجع عن قرارها بزيادة الأداءات عن المحروقات والتراجع عن رفع الأداء عن الثروات الكبرى. هذا الاحتمال وارد في ظل التفاف شعبي كبير حول المطالَب المرفوعة، خصوصا إذا امتدت الاحتجاجات إلى بلاد أوروبية أخرى.
• الاحتمال الثاني : أن ترفض الحكومة الفرنسية المطالب المقدّمة ولو اضطرّت لحلّ البرلمان أو الدعوة لانتخابات مبكّرة، وهو أمر مستبعد في ظلّ عدم استعداد الأحزاب التقليدية لمثل هذا المشهد الذي لن يكون إلا لفائدة الأحزاب المتطرّفة. لكن الاحتمال غير مستحيل، وهو ضمن القوانين المعمول بها.
• الاحتمال الثالث : أن تنجح الحكومة في امتصاص حركة الشارع المحتجّ عبر حزمة من القرارات الرمزية القوية، والعمل على الوقت الذي سيجعل الاحتجاج يضعف ويدخل في حسابات حزبية ضيقة، وهذا حصل مع إضرابات سكك الحديد سابقا.
• الاحتمال الرابع : أن تتحوَّل الحركة الاحتجاجية إلى انتفاضة اجتماعية ضخمة، مثلما حصل الأمر مع ثورة 1968 زمن الجنرال دي غول، من أجل إعادة التوازن للسياسة الداخلية والخارجية الفرنسية وفق المعطى الاجتماعي واستحقاقات مجتمع العدل في توزيع الثروات. هذا الأمر غير مستبعد إن تعكّر الوضع الأمني وتسبب في فقدان أرواح وممتلكات كثيرة، وإذا نضجت البدائل وكان خطاب المحتجين منسجما بين جموع المشاركين والحاضنة الشعبية. كما أن الرأسمالية عُرفت بقدرتها الفائقة على التخلص من تناقضاتها عبر الأزمات…
أخيرا، تجدر الإشارة إلى أمر مهم وهو العدد الضئيل جدا من الخسائر البشرية في الاحتجاجات الفرنسية رغم اشتراك ما يقارب مائة ألف محتجّ في مختلف المدن، وهذا يحسب لحرفية قوات الأمن، إذ لو كانت جرت مثل هذه الأحداث في بلاد أخرى لا تحترم حقوق الإنسان لسقط ألوف القتلى ! وهذا درس لمن لا يعطون قيمة تذكر للأرواح البشرية. كما تجدر الإشارة إلى أن المجتمعات الغربية متعوّدة على إدارة الاختلافات في داخلها، وقادرة على امتصاص الأحداث بفضل اشتراك الناس في خلاصات توافقية للعيش المشترك.
كما تجدر الإشارة إلى تفاهة تلك التعليقات السخيفة التي تروّجها الصحافة الأمريكية الغارقة في الأوهام، وهي تصوّر الأمر في فرنسا على أنه أشبه بحرب أهلية، ومثلها سخافات بعض المعلّقين الذين ينتظرون سقوط دولة فرنسا عبر الاحتجاجات المطلبية، وفِي ظنّهم أن فرنسا دولة كرتونية مجتمعها أصابه طاعون الخيانات ويحكمها سفهاء كمثل الذين يحكمون بلادا كثيرة، غارقة إلى أذقانها في الأهوال والأوحال…
✍🏽 #بشير_العبيدي | 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |