تدوينات تونسية

أحداث باريس: رُؤية إقتصادية

أحمد الغيلوفي

بدأت الحكاية بالتبشير بالعولمة وبالرخاء الذي سوف تجلبه للعالم: فرضت أمريكا على العالم فتح الحدود أمام الرأسمال العالمي. كان المبشرون يقولون بأن إنسحاب الدولة من توجيه الإقتصاد وإلغاء الرسوم الجمركية وفتح الحدود والأسواق وتحرير العملة وخصخصة القطاع العام سوف يحرر المبادرة ويشجع الإستثمار فيخلق رأس المال مواطن جديدة للعمل فتعمل قطاعات واسعة من العاطلين فيزداد ثراء الرأسمال الذي سيخلق مواطن عمل أخرى.. تُجبِرُ المنافسة على المزيد من الجودة وتُجبِرُ وفرة الإنتاج على المزيد من التخفيض في الأسعار فيأكل الجميع ويلبس الجميع ويعمل الجميع،وهكذا يعم الرخاء.

وصف جوزيف ستيغليتس هذا المشروع “بالكذبة الكبرى”: ما حدث هو العكس: إستغل رأس المال فتح الحدود فنقل شركاته إلى الدول الفقيرة مستغلا العمالة الرخيصة وحولها إلى عبيد تعمل بدولار واحد في اليوم (الصين والهند وأندونسيا..) وحول أمواله إلى الجنات الضريبية. أصبح يبتز الدول: إحداث مواطن شغل بأجور زهيدة وبدون تغطية إجتماعية وإعفاءه من الضريبة. هذا الوضع جعل الدول في ورطة: إذا طالبته بالضريبة سوف يهرب تاركا آلاف العاطلين، وفي نفس الوقت لا تستطيع أن تُنفق على القطاعات الإجتماعية إلا بفضل الضريبة. كان الحل هو التفويت في القطاعات الإجتماعية التي لم تعد قادرة على الإنفاق عليها -التعليم-الصحه-النقل-الثقافة.. وفي نفس الوقت، وحتى يبقى رأس المال وتحافظ على فرص العمل، تدعو الناس إلى “التضحية”: قبول الأجور الزهيدة مع التخلي عن التغطية الإجتماعية. ولأن الدولة تحتاج دوما إلى نفقات (الجيش-الشرطة-الرقابة..الإعلام) فلم يبق لها إلا أن تزيد من الضرائب وترفع من السلع الإستهلاكية وتضغط على الأجور وتتملص من جرايات المتقاعدين.

المشكلة الأكبر هي أن تراكم الثروات لم يعد يُستثمر في إحداث المزيد من مواطن الشغل وإنما في المضاربة في البورصة. أي لعبة قمار بين أثرياء العالم. لمن الدولة إذا وما دورها؟ إنها في يد أقلية ودورها هو ضبط وقمع الجياع والعاطلين. ما هو الحل للعولمة وهل يمكن الرجوع عنها أم أنها ظاهرة لا عودة عنها؟ ترى حركة “العولمة البديلة” أنه بالإمكان إصلاح العولمة وجعلها أكثر إنسانية. أما بريجنسكي فقد رأى أننا ذاهبون حتما إلى عالم متوحش لذلك إقترح مصطلح الـ tittytainemnt : أي tits (حَلَمَة) و Entertainment التسلية: بقليل من الغذاء وبتسلية مُخدرة يمكن تهدئة خواطر العاطلين والجياع. ما يحدث في باريس هو فشل مشروع العولمة. سوف نعود إلى دولة “العناية”: دولة السيادة التي تغلق حدودها وتحمي تجارتها وفلاحتها وتوجه إقتصادها، ولكن بعد فوضى إجتماعية عالمية ستكون قاسية أكثر في دول الشمال.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock