عشقٌ أم كراهيةٌ أم حسدٌ؟ أم ليٌّ لأعناق التاريخ والجغرافيا والذائقة والشرف؟
نترك الظواهر ونفتّش في الأسرار.. نترك الفساد وذيول الاستبداد.. نترك الفقر وأسابه والخطر وأبوابه ونمسك في تلابيب فصيل سياسيّ لم يعرف في حياته غير قيودهم وحدودهم وتتبّعات عسسهم.. لم يتركوا له سرًّ إلّا هتكوه ولا لغزا إلّا فكّكوه.. ولم يدّخروا في شأنه ظلما إلّا فعلوه.. ولا طريقا للإجرام إلّا سلكوه.. ولو أنّهم سلكوا للبناء طريقا لجعلوا من تونس سويسرا أو أبعد.. ولكنّهم بعد أن سحقوا خصما لهم عادوا من رحلتهم منتشين وتحلّقوا في بعض الزويا يتداولون على ثمالة ألقى بها صانع التغيير إليهم فظلّوا يتنافسونها قانعين.. يتدفأون بنار أضرموها في جسد من اتّخذوه خصما لهم…
حزب منتشر في كلّ البلاد يعرفه الشجر والحجر والبشر نشروه بمناشيرهم.. أطردوه من المرايا كلّها.. دحروه إلى زوايا الظلام بعد أن وصموه بالظلامية.. وأرسلوا فوانيسهم تجتاح ظلمات الوطن وتنسخ ظلاله حتّى جاء “الماء والضوء” جميعَ الناس.. وسعوا في إصلاح البلاد وتنوير العباد حتّى أمنت جميع بَغْلاَتِ تونس عثراتها في عهد ظلّ جديدا يتغنّون بأمنه وأمانه ويشيدون بإحيائه الإنسان حتّى أكلت الدابة منسأة سيّدهم…
ولمّا قامت الثورة خلعت عليهم الأبواب وقلعت النوافذ.. فأقبلوا فرحين وقد أمنوا تحويل مقاعدهم من صفّ النظام إلى صفّ الثورة.. بالأمس كانوا شركاء الذئب ولمّا استردّ الراعي “حلالَه” هرعوا إليه يقاسمونه طعامه وينغمسون في وجعه.. ولا مشكلة في ذلك.. فهم صنّاع الثورات من المهد إلى اللحد..
بعد خطوات من عصر الثورة انتبه هؤلاء إلى أنّ الذئب عندما هرب شحن في حقائبه ما تبقّى لهم من حظوظ في بقية عمرهم الافتراضي.. ولكن لا بأس.. فهم يفلحون في مراوغة الزوال رغم انعدام كفايات البقاء لديهم.. عناد يحار فيه التاريخ وتعجز دونه قوانينه الصارمة..
ينسى هؤلاء أنّ الفصيل الذي سعوا في تدميره ورضوا بأن يكونوا العصا التي تجلده والمنشار الذي ينشره ما أبقى عليه سوى عنفهم ضدّه وتكالبهم على تصفيته وسعيهم المحموم في استئصاله.. ولكنّ شهوة سحقه لا تغادرهم.. كأنّه لا غاية لوجودهم غيره يلاحقونه في حِلّه وترحاله وما بينهما…
لمّا أجريت انتخابات 23 أكتوبر 2011 دخلوا في منافسته وقد حسبوا أنه صار ماضيا يستحيل عليه العودة من وراء جبال العذاب التي راكموها في طريقه.. ولكنّه خاض ضدّهم السباق جريحا أُخرج لتوّه من بين الأنقاض.. نافسهم وتفوّق عليهم وبدا كشجرة سامقة لا تزال جذورها ثابتة في الأرض.. أو كمارد خرافيّ قد عشقه البقاء رغم تراكب أسباب الفناء.. ومنذئذ عاودهم سعارهم واستأنفوا معه سيرتهم الأولى.. ارتكسبوا على أعقابهم واستأنفوا ترتيب أولوياتهم الركيكة.. ولم يروا لهم من تناقض هذه المرّة سوى مع الإسلام السياسيّ وقد توهّموا أنّهم ملكوا معاول فيورباخ ليجهزوا بها على بنيان كان أحرى بهم أن يتواضعوا ليفهموا سرّ عناده لهم واستعصائه عليهم بدل أن يصرفوا جهودهم في عبث رجمه… ولكنّهم بلا عقل ولا يملكون الصبر على الفهم…
إنّهم عناوين الكسل وعلامات العجز.. يدورون في حلقة مفرغة لن يصيبهم منها غير دُوار سيضيع معه ما بقي من رؤوسهم…
ما أحوج بلادنا إلى عقول مختلفة تتنافس الخير وتتداول النفع وتتجاوز عن السوء…
ولكن…
الله غالب.