سبل الرشاد في بيان الفرق بين الرشوة والهدية والفساد
وقد أجمع جمهور العلماء على تحريم الرشوة وبنوا حكمهم على آثار كثيرة من مفهوم القرآن ومنطوق السنة، ولعل أشهر حججهم وأكثرها جريانا على ألسنتهم وفي مصنفاتهم ما رواه أحمد والطبراني من قول المعصوم عليه السلام “لعن الله الراشي والمرتشي”، واعتبر أئمة الفقه أن الرشوة من الكبائر لأن اللعن لا يقع إلا في كبيرة. وشذ عن هذا الإجماع بعض المتأخرين من الراسخين في فقه النمط (وهو فقه يأخذ به عامة أهل السلطان بإفريقية) فقال الشيخ سفيان طوبال -وهو من أعيان الطائفة المسماة “نداء تونس”- أن الرشوة ليست داخلة في باب الفساد وأنها من باب المباح. واحتج لرأيه بأن الرشوة داخلة فيما عمّت به البلوى حتى صار صلاح أمر العامة منوط بها. فهي أقرب إلى حكم الهدية التي لم ينكر أحد إباحتها، بل ورد الحث عليها كما في الأثر الذي جاء فيه: “تهادوا تحابّوا”.
وقد رد عليه بعض العقلاء وطعنوا في رأيه محتجين بما جاء في صحيح البخاري -في باب احتيال العامل ليهدى اليه- من قول النبي عليه الصلاة والسلام للرجل الذي أرسله ليجمع الزكاة فأخذ هدية لنفسه، فقال له الرسول الأكرم “هلا جلست في دار أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا”. فكان مفهوم الحديث تحريم الهدية على الحاكم، ولا ريب أن التحريم في الرشوة أغلظ وأشد… وقد طعن في هذا المأخذ على فقه الشيخ سفيان طوبال بعض غلاة النمط فقالوا إنه عندنا بعد دخوله في خدمة “سي الباجي” بمنزلة أهل بدر عندكم، فلا يؤاخذ بجريرة وإن عظمت، وساقوا أمثلة يضيق بها المقام من فعل سادة النمط وسقوط المؤاخذة عنهم فيما هو أشنع من الرشوة وأذهب بالدين والدنيا معا.
قال المصنف رحمه الله: وقد سكت العلماء عن حجتهم الاخيرة وقالوا إنها داخلة في باب الشطح الذي يؤخذ عن باطنية النمط ولا يؤاخذون به، أو هي من باب ما يقوله من رُفع عنه القلم فسقط عنه التكليف… والله الهادي إلى سواء السبيل.