حدود القوة في زمن الضعف …
قوة الدولة هي بالضبط نقطة ضعفها، وبمعنى ما، انحلال الدولة غالبا ما يشكل نقطة ارتكاز لها وعنوان قوّة..
وهنا لا نفرّق بين السلطة والدولة.
السلطة القوية هي كيان نرجسيّ، سرعان ما يكتسب عدائية مفرطة ضدّ كل انتقاد للأنا.. وكل خطاب لا يرضي هذه النرجسيّة قد يؤخذ على محمل شخصي، يستوجب بالضرورة إجراء دفاعيّا حاسما، حسب الظروف..
كانت عهود الإستبداد الماضية تنظر إلى الوقفات الاحتجاجية كأعمال عدائية، وإلى الإضرابات القطاعية كاستهداف مباشر للدولة، تستوجب ردّا مباشرا.. أما الإضراب العام فهو الحدث الهائل الذي مازلنا نذكره إلى اليوم، كما نذكر ناكازاكي وهيروشيما.. وهو لا يقع إلا مرّة واحدة.
هذا ما دفع السلطة، في ذات الزمن، إلى التفاوض مع المنظمة النقابية الكبرى في البلاد، وإلى التنازل لها عن بعض حقوق العمال.. ليس ضعفا منها، وإنما حرصا على دوام القوّة والهيبة..
اليوم أصبحت الدولة مثل مؤخرة ماتت من الصَّقَعِ، تخدّرت مسامّها، وما عاد يؤلمها قرص ولا صفع. يمكنك أن تشتمها ما شاءت لك لغة السباب، يمكنك أن تذهب إلى القصبة وأن ترسم الإصبع الأوسط على الباب.. يمكنك أن تقطع الطريق، أن تضُرب، وأن تُمعن في كل الخراب.. ولن تحرك السلطة ساكنا، ولن تظفر منها ولو ببعض جواب.. وليس ذلك تعبيرا عما تملكه من عناصر القوّة، بل عمّا لا تملكه منها.
•••
لطالما شكل الاتحاد العام التونسي للشغل -بقواعده وليس بقمّته- قوة مضادة للسلطة، قوّة حقيقية استظل بها كل معارض وكل صوت حرّ.. قوّة استطاعت أن تغيّر من قواعد الاشتباك، وأن تربح المعركة ذات ربيع أتى في موسم الشتاء.. ولكنه أضاع كل عنفوانه بعد ذلك مع كل ربيع ومع كلّ شتاء..
اليوم، الاتخاد العام التونسي للشغل ليس إلا خيالا لما مضى، وليست المقولة الشهيرة “أكبر قوة في البلاد” إلا للتعبير عن الضدّ في المعنى.. كمسافر في العتمة، يغنّي لِيَنْسَى مخاوف العتمة !.
في اعتقادي، تهرّم الجسد النقابي مردّه الأمور التالية :
• التقدير الخاطئ للقوّة الذاتية المفترضة، فالقيادة النقابية سابقا، كانت مدجّنة.. وكانت، ككل كلب أليف ترضى بالفتات. تكفيها معاملة مميّزة وحظوة في المناسبات، ومقاسم هنا ومبالغ هناك.. أما اليوم فهي تريد الجلوس على الطاولة كما يجلس أصحاب البيوت، وأن تكون شريكا في صنع القادة والسياسات.. مما دفعها إلى الإدمان على سلاح الإضراب حتى لم يعد له أثر، وفقد الفاعليّة والفعل..
• الدفع إلى حافة الهاوية من قبل الإتحاد أصبح سلاحا في يد سلطة يستهويها اللعب على الحواف. فالتلويح بالإضراب العام، والذي تمّ استهلاكه من شدّة الاستعمال، لم يعد يثير مخاوف السلطة بقدر الإتحاد.. في بلد تردّى اقتصاده في مهاوي السياسات الخاطئة والفساد.. والرأي العام، موضوع الرهان، قد يوجه اصبع الاتهام إلى المنظمة الشغيلة بدل دويلة الغنيمة..
• الفاعل السياسي اليوم، ممثلا في رئاسة الحكومة، تفطّن مبكّرا إلى حدود قوّة العمل النقابي.. وهو عازم على كشف ضعفه، وإلى التخلص منه عبر تفكيك أعتى أسلحته الإستيراتيجية حتى لا يطلب مجددا الشراكة، أو نصيبه في مائدة السلطة..
•••
لنضرب لذلك مثلا قطاعيّا : نقابة التعليم الثانوي.
معركة اليوم هي معركة الرهانات الخاطئة بامتياز، وأراها كما يلي :
• الرهان على وحدة القواعد مع انطلاق شرارة المعارك.. وهو رهان ثبت فشله مبكرا.. فمازالت القواعد منقسمة كما لم يحدث من قبل. بل وزادت حدة التباين والاختلاف مع انكشاف الدوافع السياسية عند هذا الطرف أو ذاك.. وأصبح القطاع قطاعين.. والتهم تلقى جزافا من الجانبين.
• الرهان على تجاوز كل الخطوط الحمراء، وقد نسيت الجامعة العامة للتعليم الثانوي أنه لم تعد هناك خطوط ولا ألوان.. وأن السلطة لم تعد أم الرضيع، وستقبل بالسنة البيضاء، وبإلغاء الثلاثيات، وكل الامتحانات.. وسيكون ذلك ثمنا مقبولا من أجل توجيه الإتهام أمام المحاكم المنتصبة في وسائل الإعلام، وكسب معركة لها ما بعدها.
• الرّهان على تحقيق أعلى المكاسب للقطاع، وهو في الحقيقة رهان الحياة والموت.. فالانتصار على هذا النحو سيمكن الجامعة العامة من نسيان خيباتها واستعادة قواعدها، وستستثمره حتما في تجديد الثقة في المؤتمر القادم، وفي صراعها المكشوف مع مركزية الإتحاد.. أما الهزيمة فهي بداية النهاية لكل الآمال..
هي إذن معركة حتى الموت، لن تنتهي باحتساب النقاط، بل بقطع الأنفاس.. وساذج من يظنّ أن انتصارا بهذه المواصفات هو في حيّز الممكن.. فلا السلطة التي جربناها ترضى بهكذا إذلال، ولا المركزية النقابية التي رفعت المظلة والغطاء، تقبل بمجرد التصفيق للأسعد اليعقوبي اعترافا بروعة الأداء !.
•••
أتمنى أن تجد جامعتنا العامة، ومعها منظمة حشاد، طريقة ناجعة للتكيّف، وتسارع إلى شفط كل الدهون..
فالحيوانات التي يتجاوز حجمها الحدود، غالبا ما تختفي من عالم الطبيعة.. وليس ذلك لكثرة الأسود، بل لوفرة الأضراس وندرة المصيد !.