إتفاقية التجارة الحرّة الشاملة والمعمّقة بين تونس والإتحاد الأوروبي (أليكا) بين المنافع والمخاطر

محمد الهادي تريمش

تنصص هذه القراءة السياسية حول اتفاقية التجارة الحرّة الشاملة والمعمّقة بين تونس والاتحاد الأوروبي على أربع محاور أساسية تتمحور أولا على مفهوم إتفاقية الأليكا، ثانيا على منافع الدولة التونسية من إبرام هاته الإتفاقية إذ ترى الحكومة وبعض الخبراء الاقتصاديين في الاتفاقية خطوة ضرورية لتعزيز الاندماج في السوق الأوروبية، ثالثا على المخاطر التي ممكن أن تواجهها الدولة التونسية من إبرام هاته الإتفاقية إذ يستشهد العديد من الخبراء بما لحق القطاع الصناعي التونسي نتيجة التوقيع على اتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي قبل ثلاثة وعشرين عامًا ورابعا على تقدير شخصي حول الإستراتيجيا التنفيذية لإبرام إتفاقية الأليكا.

بداية يجدر التأطير التاريخي والجغرافي لاتفاقية الأليكا بأن إتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق هو إطار متمم لاتفاق سنة 1995 الخاص بالمنتوجات الصناعية حيث سيشمل قطاعات الخدمات والفلاحة والاستثمار وتسيير التجارة كما يعتبر هذا الإتفاق معمقا للعلاقات الثنائية على أساس تقريب التشاريع بين تونس والاتحاد الأوروبي والحد من الحواجز الجمركية بينهما، وهو الاتفاق الذي نصّ على رفع الحواجز الجمركية على توريد وتصدير المنتجات الصناعية وأنّه على عكس ما بشّر به المتفائلون لم تتمكّن تونس من تعديل ميزانها التجاري المختلّ مع أوروبا. بل خسرت ميزانية الدولة جرائه 30 % من المداخيل الجبائيّة المعتادة، ودفعها إلى المزيد من الاقتراض الخارجي وأنّ أكثر من نصف الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسطة اختفت، أي ما يعادل 55% من النسيج الصناعي، ممّا تسبّب في فقدان حوالي نصف مليون تونسي لعمله.

ثانيا. فيما يخص المنافع التي ممكن للدولة التونسية أن تكتسبها من إبرام هاته الإتفاقية وجب في البداية مواصلة الاستئناس بالاتفاقيات والمبادلات التي سبق للاتحاد الأوروبي أن قام بها مع دول أوروبا الشرقية التي نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر مولدافيا وأوكرانيا. كما يجدر التذكير أن انطلاق مفاوضات الأليكا تتزامن مع البرامج المتعددة التي شرعت الحكومة التونسية في إنجازها في إطار منوال جديد لتنمية مستدامة شاملة ومندمجة ضمن مخطط التنمية الاقتصادي والاجتماعي من خلال اندماج أفضل في القيمة العالمية بما سيمكن من خلق فرص شغل جديدة خاصة لأصحاب الشهائد العليا ويعتبر بالتالي اتفاق الأليكا محركا لتنمية مستدامة لدعم القدرة التنافسية لتونس وكذلك فرصة سانحة لإنجاح هذا الاختيار الإستراتيجي. إذ لا أعتبر اتفاقية التجارة الحرّة الشاملة والمعمّقة بين تونس والاتحاد الأوروبي (أليكا) مجرد اتفاقية للتبادل الحر بل أعتبرها آلية لتسريع المصالح وبرامج إعادة الهيكلة التي بدأتها تونس وسيبرز دور هذه الاتفاقية جليا في المساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية للبلاد ولا سيما من خلال دفع القدرة التنافسية للمؤسسات التونسية، تحسين مناخ الأعمال، العمل على تعصير الإدارة، بناء الطرقات السيارة والخدمات الإعلامية وخدمات الاستشارة. إلا أنه ساد في عدد من المرات بعض الانتظارات المجحفة أو بعض المزايدات المبالغ فيها ولكن يجب في النهاية تغليب المصلحة العامة، دون أن ننسى أن المفاوضات والتي تتمثل أساسا في التدرج للأخذ بعين الاعتبار القدرة التنافسية لكل القطاعات بالنظر إلى الفارق التنموي بين الجانبين، أيا كانت، تقوم دائما على مبدأ التكافؤ في العروض وهي التي يمكن أن تكون سهلة إذا وجب الأخذ بعين الاعتبار عدة مسائل مع العمل الدائم على تغليب المصلحة العامة وخصوصيات الجانب التونسي واحترام مبدأ السيادة.

ثالثا. لا يبدو واضحًا للكثيرين أنّ التوقيع على الاتفاقية يتجاوز مجرّد إلغاء المعاليم الجمركيّة على منتجات قطاعيْ الفلاحة والخدمات. إذ أنّه سيشمل أيضا إلغاء الحماية التعريفية والتدابير الصحية والتدابير المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية وكذلك تلك المتعلقة بقانون المنافسة وأنّ هذه الاتفاقية الجديدة تمثّل بالنسبة للاتحاد الأوروبي محاولة لفكّ خناق الأزمات المتتالية منذ 2008 على اقتصادياته. أنّ اتفاقية الأليكا تدخل في منظومة العولمة الاقتصادية، التي تخدم مصالح الدول الغنيّة وهو ما يعني تمكين الشركات الأوروبية الضخمة من منافسة المؤسسات التونسية في مجالات استراتيجية مثل الغذاء والطاقة والصحّة والبنوك والصفقات العمومية وأنّ ذلك سيكون مثلا في صالح شركات الإنتاج الزراعي الأوربية الكبيرة وعلى حساب الفلاحين التونسيين، لا سيما الصغار منهم والأخطر أن يقع التخلّي عن الزراعات غير الرابحة مثل القمح وتربية الماشية.

رابعا. فيما يخص تقديري، أعتقد أنه من الأفضل لكل بلد تحديد مواقفه حول كل ملف يتفاوض فيه ولأن المفاوضات منظمة في دورات فإنه أحيانا تنظم أكثر من دورة حول موضوع ما للوصول إلى نتيجة شفافة كما يمكن أن تعترض المفاوضين مواقف مختلفة وأحيانا متضاربة في نفس الملف من الجهات الداخلية المختلفة مما يتطلب المزيد من التفاوض حتى الوصول إلى اتفاق مرضي للجميع، كما يجب اعتماد مبدأ المسؤولية حيث يتعلق الأمر بأن مقترحات كل قطاع وجب أن تكون ممضاة من قبل المسؤولين وهذا يهم الجميع من أصغر مفاوض في قطاع ما إلى الوزير المسؤول عنه مما يجعل المسؤولية مشتركة ويتحمل الجميع ما يترتب عنها بأي صفة. ففي قطاع الفلاحة مثلا يجدر على المفاوضين من الحكومة إدخال بنود حماية تمكنها من الدفاع عن القطاعات الحساسة كلما استشعرت وجود خلل من جراء سياسة الاستيراد من الإتحاد الأوروبي وإن عمل المفاوضين يتمثل بالخصوص في جعل اتفاق الأليكا يحمل نفعا كلما كان ذلك ممكنا أو على الأقل ضمان الدفاع عن القطاعات الأكثر حساسية وأنه في كل الأحوال يمكن التفاوض ومناقشة الإجراءات الصحية والصحة النباتية بالتفريق بين السوق المحلية وسوق التصدير مما يخفف الضغط الترتيبي والأداءات على السوق المحلية. كما أنه على المتفاوضين تبادل الآراء الفنية حول مضمون النص المتعلق بـمقاييس التفاوض بشأن تحرير تجارة المنتوجات الفلاحية والفلاحية المصنعة والصيد البحري وحول الإطار الذي سيتم اعتماده لتبادل الإحصائيات.

أما بخصوص حقوق الملكية الفكرية فوجب تبادل وجهات النظر حول المواضيع المتعلقة بحماية المعطيات المقدمة بهدف صيدلي لمداواة النباتات والحصول على تراخيص الترويج في السوق بالنسبة إلى الأدوية والمواد المعدة وتستدعي هذه المسألة عقد جلسات لمواصلة التفسير والفهم كما وجب تبادل المعلومات أيضا بخصوص الإجراءات المعمول بها على الحدود ولاسيما تلك المتعلقة بنظام البضائع العابرة قصد التصدي لعمليات التقليد وأساسا الضبابية العالقة بالملكية الفكرية والمؤشرات الجغرافية في المجال الفلاحي. ويجدر الإشارة إلى الأهمية التي تكتسيها المؤسسات الصغرى والمتوسطة داخل النسيج الاقتصادي في تونس فعلى الطرف التونسي التشديد على دعم آليات المرافقة لهذه المؤسسات ولا سيما في باب التنافسية وعلى الضرورة الأخذ بعين الاعتبار ضمن بقية محاور مشروع الاتفاق الحاجيات الخصوصية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة التونسية وتوضيح البرامج الثنائية والجوية في مجال المساندة الفنية والمالية الموجهة للمؤسسات الصغرى والمتوسطة. وفيما يخص تجارة الخدمات والاستثمار والتجارة الإلكترونية وجب على الطرف التونسي أن يولي الأهمية التامة لحذف الحواجز لنفاذ مسديي الخدمات التونسيين للسوق الأوروبية مع التنصيص على أهمية التطرق إلى المسائل المتعلقة بالنمط الرابع وبالخصوص تنقل مسديي الخدمات والاعتراف المتبادل للشهائد وللخبرات المكتسبة. وبخصوص حرية التنقل وجب على المفاوض التونسي منذ البداية إرساء حرية التنقل التامة، ولكن هذا ليس سهلا بحكم وجود تونس خارج منظومة شنغان المتكونة من 28 دولة وهذا ما جعل وجوب التفاوض حول تسهيلات التأشيرة.

ختاما نذكر أنّ هذه الاتفاقية الجديدة تمثّل بالنسبة للاتحاد الأوروبي محاولة لفكّ خناق الأزمات المتتالية منذ 2008 على اقتصادياته. وذلك بفتح أسواق جديدة أمام شركاته في القطاعات التي اعتبرتها بلدان جنوب المتوسط حساسة وحيوية، وحافظت على حمايتها من المنافسة العالمية ابّان إنشاء منطقة التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي في التسعينيات وإحاطتها بحماية جمركية وغير جمركية في شكل تراخيص مسبقة مثلا إلا أنه حسن اختيار المتفاوضين التونسيين كل حسب مجاله وقطاعه من جهة والفراسة في التفاوض من جهة أخرى يمكن أن يجعل من اتفاقية التجارة الحرّة الشاملة والمعمّقة بين تونس والاتحاد الأوروبي أن تكون من أحد الحلول التي تساعد الدولة التونسية على النجاة من كل المؤشرات السلبية في المجال الاقتصادي والفلاحي والخدماتي، والعمل على الترفيع في نسبة النمو والتنقيص من نسبة البطالة ومعدلات التضخم المجحفة.

Exit mobile version