التدهور الإقتصادي… والدفع المستمر نحو التوحش
لا يمكن الحديث عن التقدم والرخاء والمناعة دون الحديث عن مقومات إقتصادية دافعة في هذا الإتجاه، حين نتحدث عن الإقتصاد، فنحن نتحدث عن ممارسة الناس اليومية لحياتهم، فالمواطن حين ينام يعدّل ساعته على الإقتصاد كي لا يتأخر عن العمل، وتتحرك معه وسائل النقل بجميع أنواعها، وتفتح على حركة ساعته المقاهي والمتاجر، ومن أجله تفتح المحاضن أبوابها…
كل المتغيرات تعدل ساعاتها على حركة الإقتصاد سلبا وإيجابا، تصعد بصعوده وتنزل بنزوله، لذلك نرى أن الدول الكبرى إذا أرادت أن تؤدب دولة مارقة تسلط عليها عقوبات إقتصادية تشلّ بها حركة المجتمع، العمل النقابي أيضا هو بالأساس عقوبة إقتصادية ضد أرباب الأعمال المتغولين، تجبرهم من خلالها على تقديم الحدّ الأدنى من حقوق العمال، فالإضراب هو وسيلة تأديبية لأرباب العمل، والوسائل التأديبية كما في الحياة العائلية هي إستثناء، وليست الأصل، وحين يصبح الإستثناء أصلا فنحن في حالة مرضية يجب البحث في أسبابها الدافعة إليها كي تتم معالجتها، وكلما تأخرنا في البحث عن الأسباب كلما إستفحل المرض وبالتالي نجد أنفسنا أمام أحد أمرين، إما إستحالة المعالجة أو طول مدة العلاج مع ما يصاحبها من تكلفة إجتماعية ومادية وإرتدادات سلبية على جميع الأصعدة ذات الصلة بأصل الداء.
ما نعيشه اليوم من إستبداد نقابي إنتقل تدريجيا من ممارسة حق دستوري يمكن دعمه إلى إعتداء على حقوق دستورية لأغلب المواطنين وخاصة “الزواولة” منهم، فأن يُشَلَّ قطاع حساس، كالتعليم العمومي، أو النقل العمومي أو الصحة العمومية، لن يكون ضحيته إلا المواطن الفقير الذي لا يقدر على تدريس أبنائه بالمدارس الخاصة، ولا يقدر على علاج عائلته في المستشفيات الخاصة، والعصا الدستورية للإتحاد “الإضراب” لن تترك آثار جلدها إلا على ظهور المفقرين والمسحوقين الذين يعانون الأمرين على أبواب القطاع العمومي المتهرّي أصلا نقلا وتعليما وصحّة…، وأن يتوقف المجمّع الكيمياوي بالمضيلة وقابس ويتوقف إنتاج الفسفاط فأولى الضحايا سيكون العامل البسيط الذي لن يجد بعد أسبوع ما يسدّ به رمق عياله، والمعامل التي أغلقت أبوابها وإنتقلت في صمت إلى بلدان شقيقة لم يتألم من أجلها الكوادر النقابية العليا بل دفع ضريبتها العمال الذين أصبحوا على قارعة البطالة لقمة سائغة لمن يؤمّن لهم الخبز لعيالهم، وهو مدخل من مداخل دعاة الإرهاب.
اليوم إنتقلت موجة الإضرابات المجنونة إلى القطاع العمومي المتعثر أصلا، لتجهز على ما تبقى فيه من أمل للحياة، وأمام التراجع الإقتصادي المتواصل للبلاد فإن الحركة النقابية العشوائية منها أو المنظمة أصبحت تدفع من حيث تعلم أو لا تعلم إلى حالة من التوحش الإقتصادي، وما يزيد من مخاوف الناس هو عدم قدرة المنظمة الشغيلة على تأطير منظوريها وخروج بعض النقابات الفرعية عن سيطرة المركزية النقابية (نقابة التعليم الثانوي مثالا)، وهو مؤشر خطير خاصة إذا كان في قطاعات حساسة كالنقل العمومي والتعليم والصحة.
إذا كانت الحركات الإسلامية المتطرفة تدفع لحالة من التوحش الأمني فإن الحركات النقابية تدفع الآن وتحت غطاء الدستور لحالة من التوحش الإقتصادي ستتداعى له كل القطاعات الأخرى بصفة آلية، بما فيها الأمن، وإذا لم تضع الدولة حدا لهذا الدفع التدريجي نحو حالة التوحش الإقتصادي أي إشاعة البطالة العمومية التي ستكون حتمية ولا تتطلب تفكيرا إستراتيجيا للتنبئ بمآلاتها، فالعجز المتواصل للمؤسسات العمومية وتهرّي البنى التحتية للمؤسسات العمومية والمطلبية المشطة للشغالين في القطاع العمومي، وضغوطات المعطلين عن العمل، وبالمقابل دولة على وشك الإفلاس تغرق يوما بعد يوم في بركة القروض المالحة، لن تكون فيه نهاية القطاع العمومي إلا إلى الموت البطيء، وبالتالي توحش إقتصادي يعيدنا لحياة الجاهلية المتوحشة، يأكل القوي فيها الضعيف، وضع تتقاطع فيه مصالح الدافعين إليه مع مصالح فئة أخرى تؤمن بنظرية إدارة التوحش، وأعدّت لها إستراتيجيات فكرية وأدبية، وإذا لم تبسط الدولة نفوذها وتفرض على نفسها أوّلا ثم على المجتمع المدني أجندة وطنية يستفيد من مآلاتها الجميع، وإذا لم تتمكن الدولة من إدارة هذه المرحلة التي يريد البعض بوعي أو بغير وعي أو بجهل أو عن حسن نية أو لأنانية مفرطة أن يجعلها مرحلة مهيّئة لتوحش إقتصادي فإننا سنكون مقدمين على مرحلة من التوحش سيتنافس أمراء التوحش على إختلاف خلفياتهم على إدراتها، وإن كنا نثمن عاليا مجهودات جيشنا وأمننا الوطنيين في تأمين البلاد من خطر الإنزلاق الأمني، إلا أن عدم إنخراط المجتمع المدني والأحزاب والمواطنين عموما في إطار إستراتيجية عامة للإنقاذ بعيدا عن الموائد التلفزية وتحت إشراف الدولة بمؤسساتها الرسمية وعلى رأسها السلطتين التنفيذية والتشريعية ورئاسة الجمهورية، يتم من خلالها رسم خطوط العرض والطول لتحرك كل طرف بما يحفظ الأمن العام للدولة إقتصاديا وتجاريا وماليا وأمنيا، وبما يملأ كل الفراغات التي تترك مجالا لحركة مشبوهة قد تستغلها بعض النفوس المريضة للتشويش على حركة الإنتقال البطيئة فإن هذا البطء والترنّح قد يكون مغريا ومحفزا لهؤلاء للعمل على إيقافه تماما.