باريس هي المدينة التي اخترعت الثورة، والثورة المضادة.. والحمل الكاذب للثورة..
باريس هي المدينة التي اخترعت الانقلابات العسكرية بدءا بنابوليون وانتهاء بشارل ديقول..
باريس هي المدينة التي اخترعت شهر ماي بدءا بسنة 1958 وانتهاء بسنة 1968..
وأخيرا باريس هي المدينة التي اخترعت الموضة… ولكنها حرّمت على الثورات ارتداء لباسها حسب الموضة !..
•••
السراويل الطويلة المخططة، السترات القصيرة والقبعات الحمراء لم تعد مجرد رمز للغضب والغاضبين منذ الأزمنة الثورية لما بعد 1789.. بل أصبحت ثيابا مقدسة للثورة والثائرين.. وفي كل حقبة يُخرج الفرنسيون قطعة منها للتبرك ولإدامة جذوة الإيمان في قلوب المؤمنين !
فعلوا ذلك سنة 2013 مع حركة القبعات الحمراء في مقاطعة بريطانيا، وهم يفعلونها اليوم مع حركة السترات الصفراء في باريس.. ولكن السراويل االطويلة لم تظهر بعد في أي مكان، ولو ظهرت لعدنا إلى الزي الكامل لثورة مازالت مكشوفة العورة، وبلا سراويل.. !.
لا تعكس الأحداث الجارية في باريس أزمة في النظام الرأسمالي بقدر ما تعكس معلما ثابتا من معالم هذه المدينة المتمردة على الدوام.. فالثورة الفرنسية لم تكن ممكنة بدون مدينة باريس، وكذلك ثورات 1830 و1848 ثم كومونة باريس في 1871، وانتفاضة مايو 1968، وكل الغضب الذي تفجر في سنوات 2005 و 2007 و 2013.. إنه سلوك طبيعي، اكتسب جيناته من تاريخ سياسي واجتماعي يمتدّ على مدى أطول من قرنين..
كل هذه الفورات من الغضب، وكل هذه القطع المقدسة التي ما فتئت تظهر هنا وهناك ليست دليلا على حيوية الثورة بقدر تذكيرها المستمرّ بموت القديس الذي ارتداها في يوم ما.. الثورة غير ممكنة في مجتمع يستطيع دوما أن يتجاوز تناقضاته من خلال تصديرها إلى شعوب أخرى عبر السطو الناعم والمسلح على إرادتها وثرواتها..
كانت حركة ماي 1958، نتاجا لآلية النظام الرأسمالي في الحفاظ على مجاله الحيوي ومصالحه الاستعمارية، ولم تكن حركة ماي 1968 سوى صوت احتجاج خافت للبعد الانساني الذي يقاوم الاندثار في عالم رأسمالي متوحش..
•••
السترات الصفراء هي حركة احتجاج ضد زيادة المجبى، وضد امتيازات نبلاء العصر.. وقد يتذكر البعض أن الثورة الفرنسية بدأت أيضا كحركة احتجاج ضد زيادة المجبى، وضد امتيازات النبلاء ورجال الدين.. ولكن السترات الصفراء لن تؤسس لجمهورية سادسة، ولا لثورة جديدة، لأن الطبقة النبيلة ستدفع ما يكفي من الأموال كرشوة لخلع هذه السترة، ولأن الفكر السياسي والثوري لفرنسا مظلم، اليوم، لا أنوار فيه..
حركة السترات الصفراء هي فقط علامة من علامات تراجع النفوذ داخل مستعمرات قديمة، أخذت تتحرّر ببطء وتمنع سرقة ثرواتها وتراثها.. ويوم تتحرر هذه الشعوب نهائيا، ستعود فرنسا إلى حجمها الطبيعي كدولة عجوز ضمن قارة صغيرة..
عندها فقط، يمكن أن يلبس الغضب سراويله الطويلة.. للمرة الثانية.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.