قراءة في المآلات الممكنة لمقتل خاشقجي
لا يمكن لأي مراقب موضوعي لتداعيات مقتل المرحوم جمال خاشقجي؛ أن يبخس دور الإعلام في تنبيه الرأي العام العالمي إلى طبيعة البنية السلطوية السعودية وقاعدتها الأيديولوجية الوهابية، كما لا يمكن لأحد أن ينكر مبدئية الأتراك في التعامل مع هذه القضية، ولا الدور المحوري الذي تلعبه قناة الجزيرة وعدة منابر إعلامية أخرى في منع نسيان هذه القضية أو السماح بتسويتها بعيدا عن منطق العدالة. ولكنّ ذلك كله -رغم أهميته البالغة- يظل بمثابة مبتدأ في جملة لا يكتمل معناها إلا بخبر يتحكم في صياغته الأمريكان خاصة، ثم بدرجة أقل الاتحاد الأوروبي.
وبحكم عدة اعتبارات تاريخية وجيو-استراتيجية، يظل الأمريكان أكبر مؤثر في الشأن السعودي وفي تراتبية السلطة فيه وتوازناتها الداخلية. ولا شك في أن وصول محمد بن سلمان إلى ولاية العهد يعكس لحظة من لحظات الدور الأمريكي الحاسم في ترتيبات السلطة. فقد رفعت الإدارة الأمريكية دعمها عن أكبر حلفائها في الأسرة المالكة، ولي العهد السابق محمد بن نايف، ودعمت الأمير محمد بن سلمان ليكون وليا للعهد، وليفتح عهد “الدولة السلمانية” التي قد تعيد بناء النواة الصلبة للحكم على أساس مشابه لأساس تأسيس الدولة السعودية الثالثة على يدي الملك عبد العزيز. ولفهم موقف الإدارة الأمريكية المنحاز إلى محمد بن سلمان، سواء في عملية إزاحة ابن نايف أو في تورطه المؤكد في مقتل خاشقجي، يجب علينا أن نطرح السؤال التالي: ماذا دفع محمد بن سلمان (غير المال والصفقات المضمونة مهما كان الحاكم في السعودية منذ التأسيس) ليجد كل هذا الدعم من ترامب وصهره وقيادات الإدارة الأمريكية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال، تحتاج إلى التفكير بمنطق يتجاوز السياسة السعودية إلى سياسة المحور الذي تنتمي إليه: المحور السعودي- الإماراتي الذي يضم فاعلين “صغارا” مثل الانقلابي السيسي في مصر وملك البحرين، وبدرجة أقل ملك الأردن. فهذا المحور بقيادة السعودية والإمارات، يركّز استراتيجياته الإقليمية على محورين أساسيين، هما أساس “تفاهماته” أو أساس الرعاية المتبادلة” التي تربطه بدونالد ترامب وصهره، ومن ورائهما المعسكر المتصهين داخل الإدارة الأمريكية: أولا قيادة الثورات المضادة والانقلاب على نتائج الربيع العربي، خاصة ضرب الحركات الإخوانية بما هي شريك “قانوني” ومعترف به في بنى السلطة في مصر أو تونس أو ليبيا، وثانيا الدعم المطلق لمشروع “صفقة القرن”، وما يعنيه ذلك من إنهاء للقضية الفلسطينية وتطبيع كامل وعلني مع الكيان الصهيوني وسياساته التوسعية.
ولا شك في أن موقف الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة ترامب؛ يعتبر المحور الإماراتي السعودي حليفا استراتيجيا في منع انبثاق أي حقل ديمقراطي “طبيعي” داخل الدول العربية، وما يعنيه ذلك من ظهور “ممانعة” علمانية- إسلامية مشتركة لكل آليات الاستتباع الثقافي والنهب الاقتصادي. كما أن الإمارات بقيادة محمد بن زايد، والسعودية بقيادة محمد بن سلمان، هما حليفان مهمان في تمرير مخطط التطبيع مع الكيان الصهيوني وضرب المقاومة الفلسطينية (خاصة بعد تصنيف السعودية لحركة حماس في قائمة الحركات الإرهابية).
ونحن إذا ما استحضرنا هذا “التقاطع” الاستراتيجي بين المحور السعودي- الإماراتي والإدارة الأمريكية “المتصهينة”؛ نستطيع أن نفهم الأسباب العميقة لاستماتة دونالد ترامب في الدفاع عن ولي العهد السعودي ضدا على الكونغرس ووسائل الإعلام، بل ضدا على “خلاصات” وكالة الاستخبارات الأمريكية ذاتها. فرغم تذكير ترامب المتكرر بحجم المصالح “المالية” التي تربط بلاده مع السعودية، من الواضح أن هذا السبب لا يمكن أن يكون مانعا حقيقيا في إزاحة محمد بن سلمان عن الحكم؛ لأن ترامب سيضمن من أي أمير يدعمه لخلافة ابن سلمان تلك الصفقات، وأكبر منها، من باب رد الجميل أو “الدّين” المتوجب عليه تجاه رئيس يُفكر بمنطق رجل الأعمال. فالإشكال الذي يؤرق ترامب هو أساسا في أمرين: أولا كيف يمكن ضمان بقاء الحلف السعودي- الإماراتي وعدم انفلات عقده بعد ذهاب ابن سلمان، بل كيف يمكن التحكم في تداعيات سقوط ابن سلمان على التوازنات التي فرضتها الثورات المضادة، خاصة في مصر وليبيا وسوريا واليمن. وثانيا، كيف يمكن إيجاد أمير سعودي “متصهين” يواصل خيار صفقة القرن وضمان أمن الكيان الصهيوني في مسار تطبيعي شامل؟
ولو أردنا دفع التحليل إلى منتهاه، فإننا نستطيع أن نضيف عاملا ثالثا يتعلق بالمستقبل السياسي لترامب ذاته. فسواء أكان ترامب متورطا في عملية الاغتيال (كما يذهب إلى ذلك عديد المحللين خاصة المعارض السعودي محمد المسعري) أم لم يكن، فإن إدانة ابن سلمان بناء على تقرير وكالة الاستخبارات الأمريكية ستفتح أبواب الجحيم على الرئيس الأمريكي الذي سبق له أن طعن في تحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي فيما يخص شبهة تورط روسيا في دعم ترامب خلال حملته الرئاسية. فالإقرار بمصداقية وكالة الاستخبارات، سيكون له أثر رجعي على مصداقية مكتب التحقيقات الفيدرالي، وهو ما يعني فتح ملف تورط الإمارات (من خلال وسيطها وذراعها في البيت الأبيض جورج نادر) في تلك العملية. ولا شك في أن ترامب يدرك جيدا أن التخلي عن ابن سلمان سيضعف موقفه السياسي، كما سيضعف تحالفه مع الإمارات، وما يعنيه ذلك من انهيار لمشروع القرن، بل تقلص حظوظه بصورة كبيرة في إعادة انتخابه مرة ثانية رئيسا للولايات المتحدة.
إن دفاع ترامب المستميت عن “حليفه” محمد بن سلمان هو أمر مفهوم، سواء أنظرنا إليه من خلال مصلحته السياسية في الداخل الأمريكي (ضرب مصداقية وكالات الاستخبارات الداخلية والخارجية، وما يعنيه ذلك من تقوية حظوظه في الخروج سالما من شبهات التدخل الروسي لفائدته إبان حملته الرئاسية) أو في الخارج (ضمان دعم اللوبي الصهيوني في أمريكا، واللوبي العربي المتصهين والمعادي للثورات العربية ولتركيا). ولكنّ سلوك ترامب هذا في مرمى نيران أكثر من جهة تتقاطع مصالحها في الإيقاع به، وإن تكن أسبابها متقاطعة بالضرورة.
فرغم مغازلة ترامب للمركّب العسكري- المالي الأمريكي، فإن هذا “اللوبي” يدرك جيدا أن مصالحه الاستراتيجية قد تتأثر من بقاء ابن سلمان في منصبه، بل إن اللوبي “المتصهين” ذاته بات يدرك أنّ ابن سلمان قد يكون خطرا على الكيان الصهيوني، وعلى سياسات التطبيع بحكم سياساته الداخلية التي قد تنذر بإضعاف المملكة، بل حتى بسقوط حكم آل سعود. أما في المستوى الخارجي، فإن ترامب يدرك جيدا أن دعمه لولي العهد السعودي قد يعرّض مستقبله السياسي لخطر كبير في صورة ما ثبتت إدانة ابن سلمان، سواء عبر أدلة تركية جديدة، أو عبر تحقيقات قد تُجرى تحت رقابة الكونغرس والعين الساهرة لوسائل الإعلام الأمريكية المعادية لابن سلمان.
مهما كان الموقف النهائي لترامب، فإن المؤكد هو أن مقتل جمال خاشقجي قد غيّر توازنات القوة بين محور الثورات المضادة بقيادة السعودية والإمارات، والمحور الداعم للثورات العربية بقيادة قطر وتركيا. وسيكون لهذا التغيير تداعيات كبيرة في أكثر من دولة، خاصة تلك التي عملت الرياض وأبو ظبي على تدمير ثوراتها وإضعاف مسارات الانتقال الديمقراطي فيها. كما أن من المؤكد أن تركيا وقطر لم يبقيا مجرد متأثر بالأحداث وبالسياسات الدولية التي تصوغها أو تتحكم في مخرجاتها، بل أصبحتا من صنّاعها، وإن بدرجة أقل من القوى الدولية المتحكمة في الشأن العربي، خاصةً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
“عربي21”