أخطأ الغنّوشي واعتذر.. فَعَلَيْهِ وِزْران
بقطع النظر عن حيثيات المسألة فقد لفت الرجل الأنظار ولوى الأعناق كما لو كان ساحرا وكما لو أنّه السياسيّ الوحيد الذي ترصده العدسات والآذان.. ترصد أقواله وأفعاله وتحصي عليه أنفاسه.. أنصار الرجل وخصومه انبروا لمهاجمته على الخطإ والاعتذار أحدِهِما أو كليهِما..
يهاجمونه لأنه أخطأ.. وكثير منهم استعمل في حديثه عبارة (يزلّط).. والفعل مشتقّ من كلمة (زُلّاط).. والزلّاط في تونس هو العصا الغليظة تُستعمَل لسَوْق الدوابّ.. والعبارة تدلّ على إمتعاض من قول الرجل وعجز عن التعبير عن الإمتعاض لفقر معجميّ لدى الممتعضين ربّما أو لقسوة في القول لم يجدوا غير الزلّاط للتعبير عنها.. أوانٍ ترشح بما فيها.. قلت “إمتعاض” لأنّني أعرف أن غالب مستعملي العبارة هم من أنصار النهضة أو من الواقفين على تخومها.. وهؤلاء بتعاليقهم إنّما يضمرون أنّ الغنّوشي مقدّس لا يجوز عليه الخطأ.. لا ينطق عن الهوى ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وما دام قد أخطأ فهو قد استهلك عمر قداسته الافتراضي و”خرف” كما قال بعضهم.. وخرفُهُ يقتضي استبداله.. بعد أن لم يعد قابلا للاستعمال لدى فئة من الناس يعشقون أبطالًا في الساحة أو من صنع أوهامهم لأنّهم عاجزون بأنفسهم مستطيعون بغيرهم.. وليس غير الأبطال معاريج للاستطاعة أو محاريب لتدبير الأوهام.. والأبطال لا يخطئون.. ولا يجوز عليهم الاعتذار.
يهاجمونه لأنه إعتذر وما كان ينبعي له.. فالقدّيسون لا يعتذرون لأنّهم لا يخطئون.. وإذن فإنّ الرجل قد اركتب جريرتين: الخطأ والإعتذار.. وكلامه لا يليق برجل مثل الغنوشي.. كثير من هؤلاء تغافلوا عن الخطأ ولكنهم رشّوا عليه مِلْحًا عند مجيء الإعتذار.. كجرح يُستفزّ ليدوم به الألم.. ومن طريف ما قرأت من مهاجمة الرجل على الإعتذار تعليقا لأحدهم على تدوينة لآخر:
كتب صاحب التدوينة اعتزامه المشاركة في الإضراب العامّ المزمع إنجازه يوم الخميس 22 نوفمبر 2018 رغم عدم اتّفاقه مع قيادة الاتّحاد، فلم يجد صديقه من تعليق غير قوله: “وماذا تقول في اعتذار الغنّوشي؟”.. إلى حدّ هذا المستوى أعترف بأنّني بُهِتُّ كما بُهت الذي كفر..
ضحكت لجواب صاحب التدوينة “وما دخل الغنّوشي في التدوينة؟”.. أشفقت على الطرفين.. وتخيّلت مشهد بركان تأتي به الشاشات من بعض القارات لا يجد بعضنا ما يعلّق عليه به سوى جملةٍ الغنّوشي طرفٌ بها…
الغنّوشي.. يهاجمونه لأنه أخطأ.. ويهاجمونه لأنه إعتذر.. ويهاجمونه لأنه أخطأ واعتذر.. ويهاجمونه لأنه أخطأ فاعتذر.. وليس على من أخطأ اعتذارٌ.. وإذا قُدِّرَ لك أن تخطئَ مرّة فلا تفسدها بأن تعتذر على خطئك.. فنحن لا نحتمل الفعلين معًا..
بيد أن بعض أنصار الغنّوشي وضعوا الخطأ في موضعه.. كلّ إنسان يخطئ والغنّوشي إنسان.. إذن فالغنوشي يخطئ.. ولا تنزيه لبشرٍ أقوالُهُ وأفعاله بين الصواب والخطإ..
وذهب البعض إلى غضّ الطرْف عن الخطإ ولكنّهم ضخّموا الاعتراف باعتباره من شيم الكبار.. وكتب بعضهم (الغنّوشي اعتذر وأنت وقتاش؟) في تلميح إلى أنّ جميع السياسيين قد أخطأوا (الهمزة هكذا أرسمها).. ولن يُفلح بلد لم يتعلّم سياسيوه ثقافة الاعتذار..
الاعتذار يردّ أخطاء الناس إلى أحجامها.. ويضع حدّا لآثارها.. فعلام نخشى الاعتذار؟ ألأجل أن ننفيَ الأخطاء عنّا، ونحن نردّد دوما “كلّ ابن آدم خطّاء”؟، أم لأنّ الاعتذار مقام إنسانيّ رفيع لا نزال دونه؟
أخطأ الغنّوشي.. وأخطاؤه كثيرة جدّا لأنّه يقول ويعمل.. وجميع الأقوال والأفعال تتحرّك على قارعة الخطإ والإصابة.. ومعايير الميز متفاوتة بيننا بفعل ما نحتكم إليه من عقول وقلوب وأدوات للفهم أخرى.. فمن أحبّك التمس لك الأعذار لا يحدّها حدّ.. ومن كرهك عمِيَ عن إحسانك ولم تبصر عيناه غير عيوبك.. ولن تجد أحدا عاريا من العيوب…
أخطأ الغنّوشي لأنّه إنسان.. والإنسان ليس معصوما من الخطإ.. مهما كان مقامه.. الأنبياء وحدهم معصومون وعصمتهم من خارجهم وليست من عند أنفسهم.. هي من الترتيب الإلهي.. أمّا غير الأنبياء فأخطاؤهم عناوين بشريتهم.. وربّما عبقريّتهم..
عندما نتصالح مع أخطائنا لا نجرّمها لن نجرّح خصمًا أخطأ ولا صديقا زلّ.. وسنغفر ما نسمع ونرى.. ونمضي.. عندها فقط سيتعلّم أبناؤنا أنّ الأخطاء عناوين دالّة وليست ثقوبًا سوداء في حياتهم تربكهم فتجرّدهم من إنسانيتهم وتضعهم في خانة “البهيم”…
متى وضعنا أخطاءنا في سياقاتها خرجنا من مزالق التربّص ببعضنا البعض والتمسنا لغيرنا أعذارا كما نلتمس لأنفسنا.. وخفضنا أجنحتنا لنحلّق معًا..
ما لم يكن ذلك تكسرّت الأجنحة واستحال التحليق.. وانتكس الوطن.